dimanche 27 mars 2016

Postérité et postérieur

            
    


     Pourquoi faire simple quand on peut aisément compliquer, cliquer sur la touche qui te vient à l’esprit. L’écran s’embrase. Et ce n’est que par précaution qu’on ne met pas les deux connards dans la même phrase. Un couple, petit rictus qui bat de l’aile, de quoi je me mêle, mon œil est tout pour la femelle.  À mon insu, c’est par derrière qu’elle grandisse, toujours par derrière, j’veux dire dés que j’ai le dos tourné. Tellement convexe l’écuelle.  Garce et italique. La voyelle trébuche sur le féminin de voyou, moult austère et farouche le boyau.
 Vas-y lance la couille et fais gaffe au caillou.

dimanche 6 mars 2016

نساء الجزائر في بيتهن - دولاكروا



مهد الفن التشكيلي الغربي فيما أنتجه من تمظهرات فكرية وجمالية خلال القرن الثامن عشر خاصة للشرط الكولونيالي وساعده على التحقّق ليس فقط في الجغرافيا الشرقية، ولكن في المخيال الشرقي كذلك كحقيقة جمالية يتعالى بها ومن خلالها المستعمر على الذات الشرقية بوصفها موضوعا قابلا للتعري أمام الفنان الغربي من أجل إعادة تشكيله وفق النظرة الاستعمارية التي دامت أكثر من قرن من الزمن لم يكن فيها سحر الشرق يتجاوز جماليات الجسد كما صورته أدبيات كتاب (ألف ليلة وليلة) بوصفه الكتاب الوحيد المفتوح على النهم الغربي ورغبته الملحة في قضم التفاحة الشرقية المكتنزة.
وعلى الرغم من صورة القدسية والتحريم التي يحيل إليهما مفهوم التعرية أمام الآخر في المجتمعات الشرقية، فإن الإرث التشكيلي الغربي يطرح في هذا المجال ومن وجهة نظره- عديد القضايا المتعلقة بالمقاربة الفكرية والفلسفية للجسد الشرقي بوصفها مدخلا موضوعيا للولوج إلى عالم الشرق واستكشاف عوالمه المتخفية، وذلك من خلال التأسيس لترسيخ الشرط الكولونيالي في الممارسة الفكرية والجمالية الغربية المتشبعة بالإنجازات العلمية والمعرفية المستعدة للتضحية بالإرث الروحي الغربي من أجل عقلانية الكوجيطو الديكارتي الغائبة عن سحر الشرق بوصفه مدونة استعمارية ناشئة.
التأسيس لشعرية الجسد الشرقي:
أسست الرؤية الاستلابية لما يسميه برند مانوئيل فايشر بـ(الشرق في مرآة الغرب) نسقا فكريا وجماليا ترددت من خلال تمظهراته الفكرية والجمالية الأصداءُ الداخلية التي يُكنُّها المثقفون والفنانون الغربيون للشرق وهم يحاولون اكتشاف عوالمه المُسيّجة بوصفها جنة محرمة عليهم وعلى غير الشرقي بصورة عامة. وربما كان هذا 'التحريم' سببا رئيسيا في تشكيل المخيال العام الغربي لما تزخر به هذه الجنة في نظرهم من 'محرمات' لم تكن في متناول تصورهم العقلاني للـ'محرّم'، وكان لابد لهم ومن واجبهم الدخول إليه وتعريته من وجهة نظر استعلائية، والوصول في النهاية إلى نزع هالة التقديس عنه، وذلك من خلال ما تتيحه 'العين المجردة' من سعة نظر تطال الصورة المبحوث عنها في المكان الشرقي بزاوية دائرية تضمن سلطة الاختراق لتحقيق 'التعرية' وتتحول بموجبها العين من 'عين مجردة إلى 'عين مُجسِّدة' للصورة المثالية التي سيتم تثبيتها في المخيال الغربي كحقيقة جوهرانية للشرق.
يعتبر خورخي لويس بورخس أن 'الحدث الأبرز بالنسبة لتاريخ الأمم الغربية هو اكتشافها للشرق'. ولطالما بقيت هذه الرؤية الاستكشافية عاكسة للتوجه العام الذي حمله هؤلاء المثقفون أساسا إبهاريا لما وفروه من أدوات سخروها في خدمة مخطط تعرُّفهم على الآخر والدخول إلى جنته المحرمة من أجل تعرية صورتها المنطبعة في العين الغربية لا بوصفها جزءا من عالم تتكامل شموليته باكتمال صورته ذات الأبعاد الأربعة التي تحددها الجغرافيا، ولكن بوصفها تفاحة ديونيسية قابلة للقضم، ومن ثمة قابلة لإعادة التشكيل نظرا لما تحمله من اكتنازات إغرائية تطفح بها العين الغربية الخارجة لتوّها من سبات حضاريّ دام قرابة العشرة قرون كان لابد للتصور الغربي المستيقظ أن يحدد معالمها ويميزها بما تتيحه بوصلة الذات من تعيينٍ للآخر في صورته الجغرافية ذات البعد المكاني وصورته الجسدية ذات البعد الإنساني من خلال 'استقطاب التمييز وتعميقه- إذ يصبح الشرقي أكثر شرقية والغربي أكثر غربية- وفرض حدود التعامل الإنساني مع الثقافات، والتراثات، والمجتمعات المتخلفة'.
لقد شكل بحث العين الغربية عن الأدوات الفكرية والمادية التي تحقق إعادة صياغة الآخر وفق المنطق المتعطش للتوسع، آليةَ اتصالٍ وأساسَ انفصالٍ في الوقت نفسه ساعدَ على صياغة مدونة الأفكار العامة لخريطة الطريق التي سيتأسس بموجبها 'الاستشراق' بوصفه علما لمعرفة الآخر في صورته المثلى وصورته المتخفية ودراسته بغرض احتوائه فكريا وحضاريا وماديا. وقد ساعدت هذه الآلية ذات البعدين المتناقضين على البحث عن لوازم العمل الضرورية الكفيلة بتحقيق السبل الفنية والجمالية التي تمكّن من تثبيت هذه الصورة المثلى في المتخيل الثقافي الغربي العام المتأهب للزحف عليها ماديا وتأكيد جدارة الاستيلاء على أيقوناتها الفكرية والحضارية المتخفية في 'الجسد المستور' بوصفه قيمة حضارية تعكس التصور الشرقي للجنوح بالخيال إلى أقصى درجات التجريد والسمو عن الماديات التي طالما كانت المحرك الحقيقي للمقاربة الفكرية والفلسفية الغربية منذ أن تمكنت من التحرر من النظرة القروسطية المغلقة والخروج إلى العوالم التنويرية التي زخر بها القرن الثامن عشر.
لقد كان الشرق بالنسبة للغربيين دائما مُبهرا وجذابا.. مضيئا وشفافا.. يُرِيهم هم القادمين من عمق ظلمتهم المعرفية ما معنى أن يستر الإنسان رؤيته للعالم وللكون لأنها أشدّ إضاءة في عالمه الداخلي وأشد انسجاما مع الامتداد الطبيعي للنفس وهي تأخذ طمأنينتها من امتداد أشعة الشمس المزروعة في الأفق كأنها النهار الدائم إلى الأبد. ليس ثمة ما يجعل الأنظمة والقوانين السارية على تشكيل رؤية الفنان للعالم سريان الدم في العروق مفعمةً بهذا النوع من الاندراج ضمن شمولية الطرح التي توفرها الجغرافيا الشرقية غير ما تتيحه هذه الجغرافيا (الجسدية خاصة) من اقتراح ٍ جماليّ لالتقاءِ التجسيد بالتجريد يحقق للكثير من الفنانين المولعين ببهارات الشرق شعريةً مفعمةَ بالاقتراح يحاولون من خلالها اختراق منظومة الأقفال الشرقية المزروعة بسرية تامة في جسد الشرق الثاوي على حرارة الأزمنة المتوقفة عن الدوران منذ السقوط المتهاوي للفعل الحضاري الشرقي في نمطيّات ما اصطلح على تسميته بعصر الانحطاط. 
إنها اللحظة الحاسمة -التي ستنطبع فيما بعد بطابع الكولونيالية-لالتقاء التجريد بالتجسيد على الرغم مما بينهما من اختلاف في فهم جوهرانية الانتساب للقطب النقيض في البوصلة الفكرية ذات الاتجاهين، والتي سيصبح بموجب تقسيماتها الكولونيالية الانتمائية الشمال غربا والجنوب شرقا. لقد 'برزت محاولة التماثل بين حضارتي الشرق والغرب على أعتاب مرحلة جديدة من تطورهما التاريخي (على تخوم القرن الثامن عشر التاسع عشر). وكانت قد شهدت تقاربا وتبادلا ثقافيا ليس بطرف متناقض حضاريا وحسب، وإنما عملية تأثر وتأثير وفي حالة من الازدواجية والتثقف واضحة المعالم' كما تقول زينات بيطار. غير أن هذا التماثل كثيرا ما اصطدم بواقع المعاملة الحقيقية للغربي مكتشفا للشرق وهو يحاول أن ينفّذ العامل الأساسي في تحرك العقلانية الغربية نحو الشرق الروحي بدافع احتوائه وترويض المساحات المستعصية على الخضوع وتفكيك الأنساق التخييلية المودعة في الأقفال الدينية والاجتماعية التي تحيط بقداسة الجسد الشرقي.
2 ـ الفعل التنفيذي للتعرية:
لقد ترسخت صورة الفعل التنفيذي لـ(لتعرية) بوصفها أداة لإرضاخ الآخر في المخيال الغربي وبوصفها أيقونة تحيل إلى صورة السيد المسيح (عليه السلام) مصلوبا، وصورة أمه مريم العذراء أيقونة دالة على جوهرانية (الانتساب). ولأن الفعل التنفيذي يقتضي الممارسة الواقعية للفكر من أجل الوصول إلى الهدف، فإن صورة الترسيخ المتعمد كانت آليةً نافذة في إعادة تشكيل الشرق في المخيال الغربي من خلال تعميد دائرة (الاستشراق الفني) بمعناه التشكيلي الرسومي وبمعناه الفكري التعبيري بما أحدثه الفنان الفرنسي (أوجين دو لاكروا) (1798/1863) وغيره من الفنانين التشكيليين الاستشراقيين من صدمة إحيائية للرغبة الغربية المكبوتة في قضم (التفاحة الشرقية) لا بوصفها تفاحة ديونيسية تتخاصم حولها إلاهات الرغبة والمعرفة والقوة كما تورده الأسطورة اليونانية فحسب، ولكن بوصفها (تفاحة نيوتينية) تحيل إلى جاذبية التعلق بالحقول المعرفية العذراء والمتوحشة باعتبارها 'نصبا أثريا' على حد تعبير ميشال فوكو. ذلك أن الغرب'قام بفرض تلك التعديلات والتصحيحات على الواقع الخام للشرق بما يضمن تحويله من هيولى رخوة عائمة إلى معارف محددة ومقبولة تسمح للغرب وثقافته باستيعاب هذا الواقع وهضمه' كما يقول صادق جلال العظم في (الاستشراق والاستشراق نعكوسا. ولعل الارتباط الوثيق بين ترسيخ الحضور الشرقي في التصور الفني الرومانسيو تزامنه مع ترسيخ الحضور الاستعماري بوصفه فعلا كولونياليا يطمح إلى الاستحواذ على الشرق في صورته الجغرافية والإنسانية يؤكد بصورة أو بأخرى الأثر الفاعل للقطيعة الفكرية والجمالية التي أحدثها الفنان الفرنسي أوجين دو لاكروا في التأسيس لـ'الاستشراق الرومانسي [الذي] من المفترض أن نبدأ به منذ صالون عام 1824 نظرا لظهور أولى لوحات دي لاكروا المستوحاة من الشرق والتي تضمنت الثورة على المدرسة الكلاسيكية وفتحت الباب واسع( لمعركة رومانسية) خاضها مجمل الرومانسين الفرنسين في الأدب والفن طيلة العشرينيات' بحسب زينات بيطار.
وقد كان مبدأ التعرية، لا بوصفه فعلا تفكيريا فحسب، ولكن بوصفه فعلا تنفيذيا كذلك، هو المبدأ الوحيد القارّ بالنسبة للفكر الغربي في صياغة أبجديات التعامل مع الإنسان الشرقي (ومخياله) باعتباره جسدا مستورا داخل المفاهيم المادية التي يجسدها المكان المغلق (الحمّام) و(القصر المغلق) و(الحريم) من وجهة النظر الشرقية من خلال الاعتماد على' على الإشاعات والتخيلات التي مصدرها السكان المحليون، وهؤلاء السكان بشكل عام كثيراً ما يبالغون في وصفهم للظواهر أو المشاهد التي تعرض عليهم، أو يسمعون بها من الغير'. ولم يكن هذا الفعل التنفيذي إلا 'كشفاً للمستور' الذي يبني عليه الشرق وجوده وكينونته الأخلاقية والدينية. ولعل هذا ما أدى إلى الوصول إلى مبدأ هتك العرض الشرقي (من الوجهة التشكيلية) الذي بنا عليه الإنسان الشرقي رفضه المطلق للمخيال الغربي، ومن ثمة، بنا عليها فعله التنفيذي المؤسس على الرؤية العنيفة في تصوراتها، وفي بناء علاقاتها مع الغرب. وذلك من خلال اعتماد الفنانين الغربيين على رسم 'مشاهد الحرملك، وبخاصة سلوكيات النساء والعبيد من النساء، وجاريات الملك، وهن مستلقيات عاريات، أو بالثياب الشرقية، من السكان العاديين الذين لم يتسن لهم دخول الحرملك والاطلاع على أسراره'. 
ولعله انطلاقا من هذه الفكرة المؤسسة لفعل التعرية بوصفه اعتداءً، يتأسس الجزء العاشق من الذات الشرقية للجزء الآخر العاشق من الذات الغربية. وهو عشق لا مكان فيه للوسطية التي تحيل إلى إمكانيات التواصل من خلال الانفتاح على الآخر، وإنما تحيل إلى صورة العشق العنيف للنقيضين المتضادين الذي تتحقق رغباته ومكبوتاته في أقصى مظاهر انفجارها في صورة الصدام الدائم الذي ينسف كل محاولات إعادة تجسير أسس الحوار كلما عادت الفكرة الكولونيالية إلى محاولة الاستيلاء على الحاضر وإعادة قص طموحات التجارب الشرقية الطامحة إلى تحقيق الذات من خلال التأكيد على أحقية الحفاظ على الجسد الشرقي وأسبقية الدفاع عن حرمته الترابية والتخييلية. ويصبح الحوار العنيف المتشنج هو الاحتمال الوحيد القابل للتشخيص الذي تقترحه عادة الاستراتيجيات المتجددة للمفكرين الغربيين وهم يؤسسون للقواعد المستقبلية التي تمكن من الالتقاء بين قطبي البوصلة(الشرق والغرب) داخل ما يسميه صامويل هنتنجتون بـ(صدام الحضارات.
إنها نفسها البصيرة المعرفية التي ستتحول فيما بعد إلى آلة فكرية منهجية تسمى اصطلاحا (بصرية)، والتي أدت بالكاتب الأرجنتيني ذي الثقافة النخبوية الضاربة في عمق التاريخ الأوربي خورخي لويس بورخس إلى اعتبار عنوان كتاب (ألف ليلة وليلة)، لا عنوانا مُوفَّقًا لحكاية شرقية مطولة كما يحبها الغرب فحسب، وإنما عتبةً إشراقية تمهّد لانفتاح الشرق النائم على النص بوصفه (جسدا/جوهرا) مُشبِعاً للرغبة الدفينة التي تؤدي إلى انفجار مضمرات الحرمان المعرفي الذي عانى منه الإنسان الغربي في ظل تسلط الكنيسة المسيحية لما يقارب عشرة قرون مظلمة.
يخلص بورخس، وهو يعيد قراءة الذات الشرقية من خلال كتاب (ألف ليلة وليلة) ببصيرة تتجاوز الرؤية البصرية الملتصقة بالصورة من حيث هي امتثال عارض-لأن بورخس كان ضريرا-، إلى أن عنوان (ألف ليلة وليلة) يدل على لانهائية المغامرة المعرفية والإبداعية التي يعيشها الإنسان الشرقي وهو يتحاور في خدر المعرفة مع من يعتقد الغرب أن الرجل الشرقي الذكوري المتسلط قد جعل منها مجرد أنثى تحيل إلى تراكمية التناسل الليلي في اللاوعي الإبداعي والتشكيلي للغرب كما صوره الفنان دولاكروا وغيره ممن أسسوا لمدرسة الاستشراق التشكيلي. ولعله أدرك بطريقة نهائية أن (الليلة) المضافة إلى (الألف ليلة) هي مفتاح سيرورة المعرفة الشرقية التي يجب أن تقضمها المساحات الشاغرة للتسلط الغربي في كشف ما يكتنز في داخله من رغبة جامحة وجوع وجودي إلى الانتهاء عند الجسد بوصفه مادة زائلة ولكنها قابلة للتجسيد المابعدي الجامد وصورته الأسطورية التي يحققها بيجماليون في عشقه الأسطوري لما نحتت يداه.
ولعل هذا ما يفتح عنوان (ألف ليلة وليلة) على فضاء خارج عن شمولية المعدود الممكن الخاضع لحسابات القسمة المصلحية والطرح الاستعلائي والضرب الإلغائي، وخارج كذلك عن إمكانية ما يمكن أن تعده تيليسكوبات الرصد الاستباقي للظاهرة الشرقية من إلكترونات شاردة في ديمومة الفضاء الراسخ في المخيال الغربي، ليدخل- أي العنوان في لا نهائية السيرورة الوجودية للجوهر الذي لا يحُول، والذي طالما أرّق فلاسفة الغرب ومتصوفيه باعتباره وقودا سرديا محرِّكا لآلية التخييل الغربية المعطلة.
ولعله من هنا، لم يكن كتاب (ألف ليلة وليلة) غير ذلك الكنز الثمين بالنسبة للفنانين التشكيليين وهم يقرؤونه مترجما إلى الانجليزية أولا ثم إلى اللغات الأخرى، فيحيلهم إلى إعادة تأثيث المخيال الغربي بآليات الكبت المعرفي المترسبة منذ قرون الانحطاط والقهر المسيحي بما يجود به المخيال الشرقي من أيقونات معرفية ستساهم بصفة جذرية في صناعة الصورة الشرقية للمرأة والحمّام والحريم من خلال إعادة أنتاج جدلية (شهريار/شهرزاد) في الموروث التشكيلي الغربي من دون الحاجة في كثير من الأحيان إلى السفر إلى الشرق. ولعل 'هذا ما فعله الفنان 'اوغست دومينيك أنغري' الذي لم يسافر أبداً إلى الشرق، غير أنه استخدم مشاهد الحرملك، من خلال استحضاره إحساس الثقافة والجمال الشرقيين، مشبعاً برغبة انعزالية يطمح إليها العديد من الفنانين الغربيين'.
3 ـ 'نساء الجزائر في بيتهن':
يؤكد الفنان أوجين دو لاكروا في تأسيسه للبعد الرومانسي للاستشراق الفني (التشكيلي) على أهمية التخييل في الجلسة الحميمية للمرأة العاصمية (نسبة للجزائر العاصمة) المحاطة بالتفاصيل الحياتية ذات المغزى، والتي طالما أوْحَت للفنانين الغربيين بانبجاس طاقاتهم الإبداعية، وذلك ومن خلال رسمه للوحته المشهورة (نساء الجزائر في بيتهن) (Femmes d'Alger dans leur aartement) سنة 1834، أي أربع سنوات فقط بعد دخول الاستعمار الفرنسي إلى الجزائر. وهي مدةٌ كافية بالنسبة لعين هذا الفنان الفاحصة من أجل ترسيخ أنموذج المرأة الشرقية الجزائرية التي تظهر تحت حركات ريشته من زاوية ضوء لم يعهدها في حياته من قبل، وأَسْرِ زاوية الضوء العاكسة لأبهى ما يمكن أن تكون عليه المرأة الشرقية في مرآة النفس الغربية المتعطشة إلى تعرية الآخر بالنظر إلى الواقع المعاش الذي يعرفه الفنان الغربي في هذه الفترة عن الشرط الأنثوي للمرأة الغربية.
لقد كانت لوحة أوجين دو لاكروا تمهيدا استشراقيا غاية في الإبهار لما ستصبح عليه المجتمع الجزائري مباشرة بعد استقرار الفعل الكولونيالي في باحة الأرض الجزائرية وتوطيد دعامة الرؤية الغربية في إعادة تشكيل المجتمعات ما قبل الكولونيالية من خلال ترسيخ ما توارثه هذا المجتمع من تراكمات التجربة العثمانية المنزوية إلى جغرافيتها الأورو- أسياوية بعد استنفاد حمولتها الحضارية الحالمة بتمديد مساحة الامبراطوية العثمانية إلى أقصى المغرب العربي.
لقد كان أوجين دو لاكروا، باكتشافه للضوء المبهر المنبعث من الشمس الجزائرية، إيذانا بميلاد ما ستكون عليه منظومة إعادة التشكيل الغربية للجسد الشرقي في تعامله مع الإنسان الجزائري ومحو الأسس الثقافية التي طالما دافع عنها بقوة ودفع من أجلها النفس والنفيس. ولم تكن هذه اللوحة من وجهة نظر هذا الفنان غير تلك الصورة العالقة في المخيال الاستشراقي للمُعمِّر وهو يستقوي على (الأهالي) بقوة الشرط الاستعماري ويحاول تدجين الأنساق الشرقية غير الخاضعة لمنطق الاندراج داخل المقترح الغربي للحضارة. ولذلك كان الفعل الكولونيالي نافذا في محاولة التدجين من خلال تفكيك هذه الأنساق وإعادة ترتيب ما يصلح منها لرؤيته وفق آلية التطهير الثقافي والمعرفي وترسيخ صورة الثواء القابعة في الذات الشرقية منذ العهد العثماني كمعطى جوهري في الذات الشرقية بناء على ما سيقوله (لوتسكي) وهو يصف أحوال المغرب العربي في أعوام 1868/ 1870'،أي بعد أقل من ثلاثين سنة من بداية العدّ التنازلي الذي حمله الفعل التنفيذي للرحى الكولونيالية. ولعل هذا ما لم تستطع تجسيده الرؤية الفنية الاستشراقية بدافع التعالي أو بدافع التستر- وهي تحاول انتقاء الصورة المثلى للجسد الشرقي كما حلم به الغرب وهو يقرأ كتاب (ألف ليلة وليلة) ويبني مجموع التسييجات الوهمية للثنائية السحرية (شهرزاد/شهريار) التي صنع من خلال اقتراحاتها السردية مجده الفني في العصر الرومانسي. غير أنه كان يجب على التصور الغربي للجسد الشرقي أن ينتظر أكثر من قرن من الزمن قبل أن يتفطن إلى مكابدات الجسد الشرقي تحت الريشة الاستشراقية للفنانين الأوروبيين، وذلك من خلال إعادة رسم اللوحة نفسها من طرف الفنان بابلو بيكاسو(1881-1973) الذي سيجد في لوحة أوجين دولاكروا (نساء الجزائر في بيتهن) من ضمن كل أعماله الفرصة الحقيقية لتحقيق البعد التراجيدي الذي عاشه الإنسان الغربي في حروبه العالمية المحلية وتجريبه لما يمكن أن يكون للجسد من دلالة تعكس الطباع الغربية العنيفة المتخفية من خلال التعبير عن سقوط الملايين من البشر جراء الرؤية الشمولية للفكر الغربي وهو يحاول أن يعيد زراعة آلة الحرب في عقر داره ويحصد من خلال الاستقواء بها ما جنت يداه.
إنها نفسها اللوحة التي حاول الفنان بابلو بيكاسو أن يعيد تشكيلها ثانية من خلال لوحته المشهورة (نساء الجزائر) (Femmes d'Alger) سنة 1954 من زاوية سريالية تعتمد أساسا على تعرية المتعري وكشف المكشوف من خلال اختراق الوعي المستور الذي ألمحت لوحة دولاكروا إلى كمونه في عبقرية توصيفه الرسومي لطريقة ظهور المرأة الشرقية للآخر، وذلك من خلال إضافة البعد السريالي الذي أسس من خلاله الفنان بابلو بيكاسو رؤيته الخاصة للعالم المُحترق تحت وطأة الحروب المدمرة التي أنتجتها الآلة الفكرية والحضارية الغربية وهي تحاول أن تجد لها في النظر إلى الآخر واختراقِ جسدِهِ المستورِ المبررَ العقلاني الوحيد للبقاء في واجهة الفعل الحضاري حتى ولو كلفه ذلك قلب المفاهيم الفنية والجمالية من خلال إعادة التدليل على ما أكد عليه من انهيار للمفاهيم الفكرية والجمالية الغربية أثناء الحرب الأهلية الاسبانية في لوحته المشهورة (الجيرنيكا).
لم يكن من باب الصدفة إذن أن تؤرخ لوحة أوجين دولاكروا لبداية استعمار وأن تؤرخ لوحة بيكاسو المستوحاة منها لبداية ثورة. الأكيد أن الفنان بابلو بيكاسو المنهوك بمعايشته للحرب الاسبانية المتزامنة في جزء منها مع حربين عالميتين مدمرتين للكينونة الغربية،لم يكن ليرى غير ما تراه الرؤية الباريسية المتولدة عن جلسات السرياليين الحميمية، وعن بياناتهم المتجاوزة لآفاق ما كانت تنظر له الرؤية الهايدجيرية من صرامة فكرية من جهة، وما كانت تدعو إليه السارترية من التزام وجودي بقضايا الإنسان المعاصر من جهة أخرى، حتى ولو أدى ذلك إلى اتهامه بحمل حقائب المجاهدين/الفلاقة الجزائريين أثناء الثورة التحريرية.
ربما كان التاريخ في حد ذاته مجرد صدفة رقمية أضاف لها التنسيق حمولة فكرية لازمة بأصحابها، غير أن رمزية التاريخين لا تخبر عن دلالتهما الحسية المتفجرة من الجسد الشرقي بوصفه أداة للاستهلاك البصري من وجهة العين الغربية المسترقة للنظر فحسب، ولكن بوصفها مُولِّدا متجددا للشحنة الشرقية القابلة للانفجار في وجه التصور الغربي المأسور داخل الآليات الإيديولوجية التي تضع الجسد الشرقي في دائرة التهويل المؤدي إلى ترسيخ الصورة من خلال تشكيلها بأدوات العصر وإعادة تحيين أيقوناتها الفكرية والجمالية وفق ما تقتضيه مقترحات المرحلة التاريخية من تمزق في البنية الفكرية والجغرافية للجسد الشرقي. ولعله من هنا كذلك، كان استغلال الغرب لهذا التصور من خلال ما شهدته وما تنبيء عنه- بداية الألفية الثالثة من:
- تفجير الجسد (الفلسطيني) في وجه المحتل الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عن طريق ما اختُلف حول تحديد منطلقاته الإيديولوجية المُراوحة بين المنطق الانتحاري والمنطق الاستشهادي ودلالاتهما المتخفية في الأنساق المعرفية للخطاب والخطاب المضاد.
- حرق الجسد في وجه الدكتاتور المحلي المالك للدولة المناولة للاستعمار من خلال تفجير الغضب الكامن في الذات الشرقية التي طالما اتصفت بالصبر على الأذى وتحمل المكابدات عن طريق أنموذج محمد البوعزيزي فيما أحدثه فعل الحرق من غليان أدى إلى تحولات اجتماعية وسياسية في خارطة الشرق (العربي) لم تتضح معالمها ومآلاتها بعد.
- تفجير الجسد في عمق التصور المعاصر للدولة الشمولية التي تنطلق من القوة لتسخير الإرادة بوصفها فعلا كولونياليا مسيطرا لا على حاضر الآخر (العدو) فحسب، وإنما على مستقبله كآخر قابلٍ للتمرد، وذلك فيما أحدثه الحادي عشر من سبتمبر من تغييرات جيوسياسية وتحولات إستراتيجية أيقظت عديد المسلمات النائمة في عمق الإنسان الشرقي عن التصور الغربي للجسد الشرقي بوصفه كيانا جغرافيا.
ذلك أن 'تصوير عدو مجهول في صورة شيطان وإلصاق صورة 'الإرهابي' به كي يضل الناس على غضبهم وحماسهم كلها أمور تمنح الصور الإعلامية قدرا هائلا من الجاذبية والإثارة، وبالتالي يسهل استغلال ذلك التأثير الإعلامي في زمن الأزمات والإحساس بعدم الأمان، أي على النحو الذي شهدناه في أعقاب اعتداءات 11 سبتمبر'كما يقول إدوارد سعيد. وهي حالات يحملها الجسد الشرقي جرحا نازفا في وجه الرؤية الاستعمارية للاستشراق التي طالما شكلت المخيال البصري للإنسان الغربي في سعيه الدائم نحو قضم التفاحة الديونيسية للتخفيف من النهم المادي المسيطر على التصور الغربي للوجود المفضي في متنه الفلسفي إلى العدم حسب التعبير السارتري. ولعله السبب نفسه الذي جعل (إتيان دينيه) (1861-1929)، وهو ينتقل من حالة التعميم إلى حالة الاستثناء في المتن التشكيلي الغربي، يحوّل اسمه إلى (نصر الدين) بدخوله الإسلام ويكتب سيرة متكاملة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم من وجهة نظر العين المبهورة بما وراء الصورة كذلك، ليخبر عن إمكانية تجاوز الرؤية الغربية المنغلقة في طرحها الاستعلائي من خلال انتقاله من مرحلة الاستشراق إلى مرحلة الإشراق، وتكذيب استحالة تحقيقه سدّا منيعا في وجه كل محاولة لتطبيق نظرية التعرية في الاتجاه المعاكس.
لقد تم التأسيس للتعرية بطرق ومناهج مختلفة لمنظومة استغلال الطاقة واستعباد الجسد واستغفال العقل من خلال ترحيل(D'localisation) كل ما لم يعد ترحيله خطرا على الذات المركزية الغربية، وكل ما لم يعد لبقائه جدوى في صلب الذات المركزية الغربية من مرتجعات فكرية ومادية، وذلك من خلال تغليف هذه المرتجعات في الصورة المؤنسنة تلعب فيها الدعاية الممنهجة دورا مركزيا في إقناع الآخر بتفتح الذات الحضارية الغربية على الجرح الشرقي المتخلف. ويتم بذلك ومن خلاله تشغيل آلية إبهار الذات الشرقية بأهمية الدور الذي يلعبه الغرب في إخراج الإنسان الشرقي من براثن التخلف والجهل والأصولية، حتى ليبدو لأبسط من يتعامل مع واقع المجتمع الشرقي المُنتج للتخلف ـ وهو جزء منه- أن هذه الصورة هي عين ما يمكن للشرقي أن يتبعه إتباعا ولا عيب، ويتأثر به تأثرا ولا عقدة. ذلك أن الخلاص في نظره لا يمكن أن يكون في هذه الحالة إلا بيد من بيده مفاتيح التطوير والتعمير والتنوير. وهي 'تفاعيل' لا حيلة للشرقي في توليد مفاهيمها، ولا دور له في التأسيس لمضامينها نظرا لانشغاله الحضاري بالنظر إلى نقطة انجازاته السابقة وابتعاده المنطقي عن دائرة الفعل الحضاري النافذ في آنية تحققه المادي المتولد من المنظورات العقلانية للفلسفة الغربية. 
ذلك أن القنوط العام الذي يستولي على تفكير المثقف الشرقي (العربي الإسلامي خاصة) لا يبدو في تأكيده على أحقية البحث عن الجسور الوهمية في المدونة الاستشراقية وإعادة ترميم ما خلفه الدافع الكولونيالي للاستشراق من أثر بالغ في الجسد الشرقي المستور بوازع 'التعرية' المتعمدة، فذلك أصبح أمرا واضحا للعيان بعد النتيجة الحتمية التي أدت إليها منطلقات الفعل الاستشراقي ذي النزعة الكولونيالية في خريطة الكيان الشرقي، وإنما في ضرورة تغليب الرؤية العقلانية في التعامل مع خطاب الآخر لا بوصفه غربا باحثا عن زوايا النور المتخفية في سماء الشرق الزرقاء كما تظهر رد الفعل الشرقي المبهور بإنجازات الاستشراق، ولكن في تجاوز المفهوم المصلحي للشرق الذي يجيد الغرب استعماله في كل مرحلة تحت غطاءات حوار الحضارات مرة والتثاقف مرة والعولمة مرة أخرى من دون أن يكون للشرق القدرة الواعية على تفكيك توجهات النزعة الكولونيالية الغالبة والمهيمنة على المشاريع الغربية وهي تحدد المنطلقات والمآلات التي يجب أن يكون عليها الشرق من وجهة نظر غربية. وهي الرؤية التي من المفروض أن تدرك أن 'مفهوم الشرق مفتعل ويخدم أغراضا سياسية أكثر منها علمية'، وأن الشرق كما تريد تكريسه النظرة الاستشراقية من خلال إعادة تشكيل الجسد الشرقي' ليس شرقا فقط، بل الأصح ليس شرقا على الإطلاق، وإنما هو مجاز للتابع الذي يشكله القاهر. ولهذا نجد آليات الاستشراق مستخدمة في تعالي البيض على السود وفي استغلال الرجال للنساء' كما تقول فريال جبور غزول.
ربما كان الجسد هو الدليل المادي الوحيد على تمرير فكرة الاستيلاء على أيقوناته الفلسفية من أجل تجهيز خرائطه غير المكتشفة بما سيتعرض له من 'تدنيس' بالمفهوم الشرقي لا يطال بنياته المادية باعتباره (الموديل) القابل للبقاء طويلا أمام الفنان وهو يحاول إعادة تشكيل فضاءاته العذراء، ولكن يطال كذلك الذات الشرقية بوصفها جغرافيا قابلة في أية لحظة للتعرض لما تسميه الفلسفة الكولونيالية الغربية الجديدة بـ'الحق في التدخل' (Le Droit a ling'rence)نظرا لما يعتري الجسد الشرقي من سكون، وما لحق به من تجمد جراء الثواء الحضاري المتوقف بعيدا عن عجلة التاريخ كما تحركها النزعة الكولونيالية المعاصرة وفق المقتضيات المصلحية والضرورة التاريخية والإستراتيجية. 'و لما كانت استراتيجية الغرب تقوم على أساسا على فهم واستيعاب (المغزو) فإن ما سبق وقاله أحدهم عن الاهتمام بالشرق كوسيلة ...(و ليس بذاته) يصبح مفهوما على صعيدين، الصعيد الاستشراقي- المعرفي والصعيد العسكري- الاستلائي' كما يقول خيري منصور. 
لقد كان الجسد الشرقي في صورته المثلى (موديلا) ساحرا شكل تحديا بارزا بالنسبة للرؤية الاستشراقية الفنية التي سادت طيلة القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وقد تزامنت هذه الرؤية الاستشراقية مع بداية المد الكولونيالي الذي استعمل في محاولة تصفيته للذات الشرقية الاساليب الترويضية نفسها تجاه الشعوب ذات (القابلية للإستعمار) من دون مراعاة خصوصية هذه الذات في ما هو أكثر حميمية بالنسبة لها وهو الجسد. وربما كان هذا التزامن مطية لتبلور كثير من الأفكار الكولونيالية في ترسيخ الوجود الاستشراقي في المساحة المكانية والزمنية لفضاءات الانسان الشرقي. غير أن الفعل الكولونيالي، ومن خلال تحوله إلى سلطة تنفيذية قاهرة، لم يكن لينتج في الواقع الشرقي غير ما أنتجته لوحة(نساء الجزائر في بيوتهن) لأوجين دو لاكروا في الامتداد الباطني الذي تعبر عنه لوحة 'نساء الجزائر' لبابلو بيكاسو بعد ما يزيد عن القرن من الزمن. وهي المدة التي قضاها الفعل الكولونيالي الفرنسي في ضيافة الشرق (الجوائر) المستعد للثورة. 

mardi 1 mars 2016

كتابات حول الفنان العراقي : عبد الكريم سعدون 2



أثار المعرض الشخصي الأخير الذي أقامه الفنان العراقي عبد الكريم سعدون في صالة الفن في مكتبة     بورلوف جنوب السويد تساؤلات كثيرة لدى النقاد، عن إمكانية الفن في اختراق كل ما هو مألوف، فقد كانت الأشكال التي قدمها غرائبية بعض الشيء وتسعى لتقديم فضاءات جديدة، بعيداً عن أطر القماشة وخشب اللوحة والزيت أو الأكريليك.
سعدون منذ بداياته يبحث عن غير المألوف، منذ عمله كرسام كاريكاتير في الصحافة العراقية في ثمانينيات القرن الماضي، وانتقاله للعمل على رسوم الأطفال، حتى شهرته كفنان له تجربة خاصة، بعد مشاركاته العديدة في معارض عالمية في الأردن والسويد وإسبانيا وغيرها من الدول.
تجربته هذه أوصلته لإقامة أكثر من ستة معارض شخصية وأكثر من ثلاثة وعشرين معرضاً مشتركاً.. غير أن التجربة المقبلة ستكون هي الأشهر، حسبما يقول، لأنها ستكون عبارة عن معرض مشترك مع الفنان السويدي ماتس سفينسون، على قاعة متحف فالكبيج، في مدينة فالشوبنك في السويد في شهر كانون الأول/ديسمبر المقبل.


 لم تعد اللوحة لديك مجرد قماشة بيضاء تتشكل داخلها رؤى لونية، بل أصبحت فضاءً تعمل على تشكيله من مواد متنوعة… ما التقنيات التي تعمل عليها لبناء لوحتك؟ وكيف يمكن لها أن تشكل فضاءً فنياً للإجابة عن أسئلة لا تنتهي؟ 

الفنان جزء من وجود إنساني يعيش في عالم يتغير بشكل سريع، حيث تتغير وبشكل عام نشاطات الإنسان المختلفة وطرائق أدائه وكيفية تواصله مع ما يحيطه، وهو ما حتم عليه الاستجابة للمتغيرات الجديدة، وحتم عليه البحث عن وسائط جديدة كخامات تحتضن نتاجه الفني ويفعل فيها طاقة التعبير القصوى. فلم يعد العمل الفني محكوما بأطر خارجية تتحكم في عملية صنعه وتقصر الدلالة فيه، ولكن أصبح يحتكم لقواعد عمل ذاتية وهي قواعد منفتحة وبلا أطر، وكفنان يعيش عصره لابد من الامتثال لقواعد عمل متحركة باتجاه تسهيل عملية البث، فالقماشة لم تعد مجالاً يتسع لذلك، بل إن الاشتغال خارجها أصبح هدفاً، وهو جزء من عملية تجاوز للأنساق بشكل عام، في محاولة دائمة للاستحواذ على أنساق تعبيرية جديدة تكسر اشتراطات التلقي السابقة. هناك فضاء آخر خارج الإطار كان في السابق يشتغل بشكل حيادي، أصبح الآن مستهدفا مباشرة كمرافق للعمل الفني ويحيا معه. اللوحة عندي تتشكل وفقا لآليات لا التزام صارم فيها، وأي مادة تمنح نفسها بامتلاكها مواصفات تشكل مطلوبة، تصبح فضاء اشتغال فاعلة… أحاول استكشاف طاقات المادة وقدرتها على البث، الورق والقماش والخشب آتي به من خارج متن المادة المخصصة للعمل الفني، من مواد خاصة بالمكتب أو الطباعة أو مخازن المستشفيات ومن مواد مهملة في الطرقات أو الغابات وحتى الأحبار، فإنها مخصصة لاستخدامات أخرى. يشدني تكرار الوحدات في العمل الفني وأعمل عليه كثيراً، أي أن العمل الفني عبارة عن وحدات متعددة ومتلاصقة يجمعها فضاء تشكلها، وتحيا بقدرتها على البث مجتمعة وفيها أعمل على شد المتلقي للعمل حتى في تنقل عينيه بين تفاصيله أو عمل مقارنات بين وحداته، هي محاولة مني لإظهار طاقة التوليد في هذه التفاصيل، ويهمني كثيراً الانتقال بالعمل من كونه مساحة للبوح إلى اعتباره مساحة توليد دلالي.

يرى بعض النقاد أنك تعيد إنتاج اللوحة شعراً، خصوصاً البناءات التي توحيها قصيدة النثر للفنان، ما الزوايا التي تنتجها في أعمالك؟ كيف تبدأ والى أين تنتهي. خصوصاً أن قصيدة النثر انتقلت من الاستعارة إلى الكناية، فهل انتقلت أنت باللوحة هذه الانتقالة؟

العمل الفني باعتباره نصاً مفتوحاً يتطلب في إنتاجه استجابة للمتغيرات السريعة التي تحصل في عالمنا، والنص بهذه الكيفية كما أعتقد يحتاج إلى انتقالات بحجم المتغيرات، التي بدورها تحتاج إلى استثمار آليات إنتاج متحركة. فلم يعد العمل الفني وعظياً أو داعماً للمشاريع اللفظية، بل أصبح مكتفيا بذاته من جانب قدرته على التوليد، وأقصد هنا أنه لم يعد بحاجة إلى استعارة من نسق آخر للإفصاح عنه، فهو يمتلك لغته وقاموسه وكذلك قدرة الفنان على الانتقال الحر في إسناد قابليته على التوليد. بالنسبة لي فإن الاستعارة أصبحت تقصر الدلالة في العمل وتحددها في إطار واحد، في حين يحاول الفنان جاهداً أن يفتح الأفق إلى أقصى مدى، فلا حدود لتلقي العمل الفني سوى بالقدرة على قراءته قراءة مختلفة، وأصبح الفنان يبحث عن المتجاورات المخفية في الدلالة وليست الظاهرة في تفاصيل عمله. لذلك فباعتقادي أن المتلقي على اختلافه في القدرة على قراءة العمل الفني يستطيع أن يستخلص له دلالة معينة تتفق في المحصلة مع المخفي فيه، بالنسبة لي.
ولابد أن أشير إلى أن إنتاج العمل عندي لا يخضع لتخطيط مسبق فهو عبارة عن أجزاء تتكامل وتشكل في كليتها العمل الفني لينتج من خطاب وحداته المختلفة خطاباً واحداً.
في قاموس الفن تجد بالضرورة مرجعا واحدا، وكل من الرسم والشعر يمتلكان أدوات إنتاج مختلفة ولكنهما يتفقان في أن تكون السلطة للنص أولاً، لذلك فأنا في عملي الفني أحرص على توليد ما يزيح الاستعارة جانباً، فلم تعد قادرة على العيش في النتاج المعاصر حيث يكون المحمل بها معرفا مسبقاً.


 ما الذي يدعو لاختلاف طرائق التعبير؟ وكيف تتمكن من تجسيد ألوان لوحتك إلى خامات أخرى في عمل آخر، كالحبال والخيوط والكارتون وغير ذلك؟

العمل النقدي للفن وضع أسساً لإنتاجه وشكلت المدرسية قواعد عمل تشتغل في تسهيل إيصاله للمتلقي الذي بدوره قد تحصن بقواعد تلقي محددة ويحدد تبعاً لذلك جودة النتاج الفني من عدمه، بالإضافة إلى إخضاعه لعملية فرز وتصنيف، وبالتالي اشتغل الفنان في إطارها، ويمكن للمتابع لتاريخ الفن تلمس المحطات التي شكلت خرقاً للقواعد التي سبقتها وشكلت قواعدها الجديدة، ولكنها ظلت تعمل في حدود الخامات المتعارف عليها. قماش لوحة الرسم وإطارها الداخلي وخامات النحت وحتى طرائق العرض، إلا أن الخرق الكبير لمثل هذه القواعد حصل في عصرنا الراهن، لأن الحاجة أصبحت ملحة للانطلاق بعيداً في التغيير، ودعمت ذلك بشكل كبير النظريات النقدية الجديدة التي هيأت حرية في الإنتاج الفني توازي المتغيرات الحاصلة، وانطلق الفنان في البحث عن خامات جديدة تخدم طرائق التعبير الجديدة، التي يتطلبها الإنتاج الجديد والمختلف، وأنا لا أختلف عن غيري في هذا البحث، حيث أتحرك في مساحة غير محدودة، وأشعر بانسجام تام بالعمل على خامات متعددة في عمل واحد، وكذلك طرائق إنتاج متعددة، فيجد المتلقي في عملي استخداما لوسائل الرسم التقليدية، إضافة إلى أخرى لم يتعود رؤيتها في مكان واحد، فاللوحة والعمل النحتي أو الطباعي يتبادلان وسائل كانت متبعة سابقاً بشكل مستقل، فلا أتردد في مزج الرسم مع الطباعة في عمل كرافيك، وكذلك في إنتاج اللوحة لا أجد ما يعيق الطباعة عليها، كما أكثر في استعارة عمل الأختام ووسائل الطباعة المختلفة في إنتاجها، وحتى في استخدام ألوان من مشارب مختلفة تحتاج وقتاً غير عادي لتنسجم فيزيائياً مع بعضها بعضا.. وأتذكر مرة استهجان بعض الفنانين من استخدامي لأحبار طباعة مائية مع الأحبار الزيتية التقليدية. وفي العمل النحتي أيضاً أحاول دوماً مثل هذا المزج، كما أحاول أن تكون الخامات المستخدمة مختلفة في طبيعتها. وهنا أعود للقول إن البحث عن طرائق تعبيرية جديدة تولدها معطيات العصر الذي سمح للفنان بأن يكون عمله الجديد قادراً على التماثل مع طرائق التوصيل الجديدة أيضاً، وأن يدفع المتلقي للتفكير في استكشاف دواخل العمل الفني لفهمه وتقبله.


 في تجربة قدمتها خلال المدة السابقة، وهي التخطيط داخل اللوحة، أي يتداخل فنا التخطيط كفن مستقل واللوحة كفن مستقل أيضاً، لماذا هذا المزج؟ وما الذي تريد التعبير عنه من خلال هذه التجربة؟ 

التخطيط بالنسبة لي يشكل متنفساً كبيراً… عشت سابقاً تجربة التخطيط في الصحافة، وأستطيع القول إنني كنت أضع تخطيطاً مجاوراً للنص الأدبي المنشور، إلا أنه يفترق عنه في كونه مستقلاً ولا يشكل مرافقاً توضيحياً.. كما أحرص على أن يكون له وجود جمالي بعيد عنه، وما زلت أعده كذلك، لذلك أشعر بحنين له ولا أشعر بالحرج عندما يكون في لوحتي كوجود فاعل. حاولت أن يكون وجود الخط باشتغال مغاير لما هو متعارف عليه، باعتبار الخط نسقاً فنياً وله مهمة لا تتعدى الإظهار، وفي أقصى حد يشكل حدودا للكتلة. أنا أستخدم طاقته التعبيرية الكبيرة في عمل حركة افتراضية داخل اللوحة، ليحافظ فيها على استقلاليته، ويشكل اشتغالاً علامياً دالاً. غير أن الصعوبة في تضمينه كعلامة رئيسة تكمن في تلقيه، فكيف يمكن إقناع المتلقي بأن العمل الفني لا يحتاج إلى إضافة يفترضها لجعله مكتملاً، ومن الطبيعي كفنان يتملكني شعور بالسعادة عندما أكون قد نجحت فيه بالتعامل مع سطح الخامة بالكيفية التي أحب أن أشكلها فيه، ولا التفت إلا إلى القيم الجديدة التي يمكن أن تنبثق منه.


عرفت في بداياتك كفنان كاريكاتير ورسوم أطفال. إلى أي مدى غيرت هذه التجربة منك كفنان؟ ولماذا ابتعدت عنهما إذا كانا يمثلان حيزاً كبيراً لديك؟

تجربتي في الكاريكاتير والرسم للأطفال كانت ممتعة فنياً وفكرياً، فمثل هذا النوع من الفن يمنحك مرونة في التفكير والمتابعة والقراءة وقوة في المواجهة وفي وسيلة التعبير، وأقصد بها أسلوب الفنان، إضافة إلى غنى التجربة كونها تجربة صحافية، ما يتميز به الكاريكاتير من قدرة الاختزال في الخط والإزاحة التي يجريها الرسام لكل ما هو ليس ضرورياً في التكوين الفني للرسم الكاريكاتيري، باعتبار النجاح هو في إيصال الفكرة بأسرع وقت للمتلقي وإيقاع تأثيرها عليه.. أمدتني هذه التجربة بقدرة اختزال الخط في اللوحة والتقشف فيه، كما ساعدتني على العمل على تكوين مريح للعمل الفني المنتج وساعدت في التعامل الشفاف مع اللون باعتباره عامل تشويش في الكاريكاتير، وبالعكس منه في اللوحة التشكيلية، وتلك الميزات في الكاريكاتير، كما هي أيضاً في رسوم الأطفال، شكلت لدي أساساً لما هو موجود في لوحتي، إلا أنني شعرت بالحاجة إلى أكثر من الرسم الصحافي، إلى وسيلة للتواصل مع المحيط أكثر تأثيراً ودواماً، والى ميل لتركيز الجهد في إنتاج أعمال فنية يمكنها أن تنسجم مع ما لديّ من قدرة تعبيرية أخرج بها من حدود صفحة الجريدة، أو مطبوع الأطفال، إلى فضاء أوسع وبأدوات تعبير جديدة، وإلى الآن أشعر بغنى هذه التجربة وتأثيرها عليّ، وهي التي شكلت أرضية جيدة للعمل الجديد. ولا أخفيك فإن حنيني إلى الكاريكاتير ورسوم الأطفال يدفعني لإنجاز بعض الكتب المخصصة للأطفال التي أكلف بإنجازها كما هي رغبة شديدة برسم الكاريكاتير.
حاورته صفاء ذياب



كتابات حول الفنان العراقي : عبد الكريم سعدون 1

                                                  


      بقلم عادل كمال 
فنان و ناقد تشكيلي من العراق

تمهيد

كل نص في التشكيل ، يثير إشكالية أولية : هل هو في موقعه المتوازن بين ذاكرة مدوّنة ومرئية وخفية ، ومستقبل ، متحرك ، له شفافية الحلم .. ام هو : مغامرة ، داخل حدود التجريب ، او خارجه ؟ هل النص ، يحاور الأساليب السائدة ، في الداخل ، آم يمتد إلى أقنعة أخرى ؟ أخيرا ، هل يحاذي ، في وجوده ، الجوهر او الحقيقة ، ام هو يشتغل ، كوظيفة لها مداها في الوجود ، والسيادة ؟
اعمال عبد الكريم سعدون ، تضعنا بجوار أسئلة ما زالت تمتلك حيويتها ، فالباحث ، في البصريات ، لا يمتلك شرعية إصدار الأحكام وكأنه خارج منطق التسلسل التاريخي لوجود الناقد .. فهو ، مثل الفنان ، يتعلم حكمة كيف يجاور اقل الاحكام متاهة ، بعيداً عن العلو ، او شطحات الذات ، أمام مأزقها الشعري .
إن عبد الكريم سعدون ، بحدس شغلي وانا اراقب نصوصه ، لا يقفز فوق محنة الرسم المعاصر في العراق ، منذ جيل الرواد ، في منتصف القرن الماضي . وأحلامه ، هي الاخرى ، لا تقفز فوق مكوناتها او شروطها . انه قد يخفي دينامية ما ، داخل اقنعة الرسم ، ولكنه كلما توغل في التستر ، يزداد وضوحاً . فالسر ، كلما اجتهدنا في اخفائه ، فضحناه . فعبد الكريم ، بحساسية اولية ، يشتغل برؤية قابلة للقياس ، وفي الوقت نفسه ، لا يغفل المناطق الابعد . انه يرسم لكي يصبح رساماً ، أي يشتغل بالرسم ، كما قال فاروق يوسف ذات مرة ، لكي لا نعتقد ان الفنان يمتلك امتيازاً مختلفاً .
لنعد الى الانشغالات الاولى ، الخاصة بالرسم في العراق .
فقد اعترف حافظ الدروبي ، بعد وجود عدد من الرسامين البولونيين في بغداد ، أثناء الحرب العالمية الثانية ، بضرورة استعادة البصر ، في رؤية الواقع . وكان جواد سليم يتوقف عند الكنوز الاثارية القديمة ، ويتوقف عند الواسطي ، والبغداديات ، وكان فائق حسن ، يزاوج بين خبرته الاوربية الخالصة ، والمشاهد العراقية الواقعية . وكان كاظم حيدر ، يبحث في بعث الاساطير ، باعتبارها احد مكونات الذاكرة في الحاضر .. وانشغل ضياء العزاوي ، هو الاخر ، بالمدينة البغدادية ، وحكايات الليالي ، وبالمعلقات ، واحلام النساء .. وكان شاكر حسن ال سعيد ، يبحث عن قلب الرؤية الغربية ، وجعلها منسجمة في بناء النص – الاثر ، المتصل بالمحيط ، والروح العراقية .. وكان رافع الناصري ، قد انشغل بفضاء الصحراء ، والومضة الروحية الشرقية للرسم ..
بايجاز ، كانت ثمة وقفة عند : كيف يتشكل الاسلوب ، باعتباره الرمز الوراثي لنظام الختم ، في عصر اخر .. وكيف يصنع الفنان أسلوبه ، أمام اشكالات التأسيس ، والوحدة ، مع الحفاظ على حيوية المعطى ، وخصائصه او جذوره .. وكل هذه الأسئلة ، تتضاعف امام حقائق مصائر الأساليب ، في كون تتقلص مسافاته ، وتتضاعف عناصر الاغتراب فيه . فالعولمة لم تعد تلوح بعصاها .. وانما اصبحت تتمثل بالثالوث الكلاسيكي لما بعد الحداثة : راس المال ، والقوة ، والمعرفة .  
والفن ، كجزء من الثقافة ، لا يناقش آلا داخل عوامله التاريخية .
وتبدو تجارب عبد الكريم سعدون ، اكثر امتداداً لعناصر مكونات التجربة العراقية في الرسم : التقنية، الرموز، المناخ ، العلامات ، وقبل كل شئ : المحرك لهذه العناصر ، نحو هويتها ، او بنيتها ، كنظام له مرجعياته ، واهدافه . فالفنان ، لا يغامر ، الا في حدود قابلة للحوار . فهو لا يغادر ، مناخ الرسم بكل عناصره العراقية ، بحثاً عن أساليب بديلة ، ولكنه ينشغل كثيراً بالحذف والإضافة .
فالنص الفني ، عنده ، يعكس شخصية الرسام . فهو يتجنب مأزق التعددية ، ويمكث في منطقة التجريب ، باعتبار الأخير ، له أصوله المعرفية ، ومعالجاته التكنيكية المحددة .. فالتجربة عنده تنمو عبر معادلة : الدمج والتوليد . وبهذا الأسلوب لا يغادر مناخاته العراقية : الأسطورة .. وسحر الفن الشعبي .. ومازق الذات امام صدمات وتحولات الوجود . ان عبد الكريم سعدون ، يعمل بصبر لا يحثه على حرق المسافات ، بل يجعله يتأنى ، طالما ان الأهداف التي لا وجود لها ، تكمن في الخطوات الصحيحة .

إضافات وحذف

ضمناً ، ليست مبررات الدهشة مطلقة ، وانما مثل ( شاعرية أحلام اليقظة ) – في كتاب باشلار – لها امتياز الحفاظ على علاقة مع جماليات الفن . فالذي يتوحد ، ليس اشكالاً ، او صياغة رياضية خالصة ، بل عاطفة داخلية تتوازن مع فضاءات الخارج . هذه الجماليات تلملم عند سعدون ، فهي الاعتراف المتواصل لجعل ( الشعر ) مسموعاً .
فالفنان يحافظ على حركة متوازنة لا تحافظ على معنى الفن في ذاته ، ولا تغادر امتياز الريادة في التشكيل العراقي . لقد قال كاظم حيدر ذات مرة ، وكان الحديث يدور حول الأسلوب ، أن يتمسك الرسام الشاب بتجربة عراقية ، ويمضي في مسارها السليم ، حتى النهاية ، لا يمكن ان تعد مغامرة بلا نتائج خاصة . سعدون ، في هذا الإطار ، منح بصره حرية اكبر في الانتقال ، وفي ذات الوقت ، لا يظهر تطرفاً في القطيعة فخبرته تقود التجربة الفنية إلى معالجة منهجية ، كلاسيكية غالباً . فهو يمتلك قاعدة الامتداد .. ولكنه سيمارس دور الرقيب في عمليتي الحذف والإضافة . ان اللوحة لديه ، منذ البدء ، غير منجزة الا عبر تعديلات تستند الى خبرته ، وحذره ، امام تراث جدير بالتأمل ، فالفنان سعدون ، لا يمنح الافكار الكبرى الا اشارات مدفونة داخل ذاكرته المتوقدة .. فهو شديد الصلة بالمشاهد الواقعية ، متفوقاً على التجارب الأكثر نجاحاً لدى زملائه ، تلك التي اعتمدت خلاصات أوربية .. فنظام اللوحة ، بالحذف والإضافة ، مر بمختبر بالغ التعقيد ، ولكن بخلق كان جواد سليم ، قد نبهنا أليه : الولع بإشكالنا ، بعد الانشداد النفسي لمحركاته . وسعدون لا يقلب مفاهيم الرسم ، لصالح ( الحداثة ) كحذف للتجربة العراقية في الرسم . وانما سنراه ، ومن بين قلة ، يتمسك بتحويرات الواقعية نحو مصيرها في التكوين الحديث . بل سنراه ، وبشكل لا ينتظر الشرح ، سيمارس محاكاة منطقية لخبرة الرسام العراقي المعاصرة وستكون جسور الفنان ، معلنة ، ولا يمنح المغامرة دوراً يتجاوز نتائجها فأين يكمن         الحذف ؟ بالدرجة الأولى ، لا يتحول الكلام – الحديث وكل المنجز الشفاهي – إلى علامات صامته .. أو أشكال خالصة . فالرمز لا يقذف خارج مناخه .. لان الحذف لا يحدث في المعنى ، او في إرسال الخطاب نحو الاخر . ان سعدون يمسك بتقاليد خبرة نصف قرن من الرسم في العراق ، ليمارس ، ككل من يلعب بحذر عدم المحاكاة . فهو يحاول حذف اساتذته ، ولا اريد القول : انه يمارس قتل الآباء . فشاعرية سعدون ورهافته مشبعة باخلاقيات الرواد اصلاً . فجواد سليم او فائق حسن او اسماعيل الشيخلي او خالد الرحال ، مثلاً ، لا يظهرون ، في نصوصه ، كامتداد ، وانما نراهم ، كاطياف . انهم لا يمارسون سلطة الموتى ، في الامتداد ، ولكن حياتهم ما زالت متواصلة . فالفنان لم يتوقف عند فنان ، بل هو خرج من الجميع ، من جيل لم نقدر جيداً انه اكثر أهمية مما نعقتد .  فعبد الكريم راح يدرس ( ذاكرة ) هذا الجيل ، بالدرجة الأولى ، ليتفحص ، ذاكرته ، وامكاناته في التذكير والتخيل . لان الحذف لا يمثل الإهمال ، بل هو ثمرة سلطة الوعي الفني ، تجاه نصه الجديد . والوعي ، في التجربة الجديدة ، سيواجه اعقد اشكالات ما زالت قائمة .. فامام تيارات الحداثة ، كيف سيواصل الفنان بناء أسلوبه ؟ سعدون لا يتخيل نصه ، بل يتذكره . وذاكرته ستتشكل بتدريبات والتزامات صريحة . انه لا يمنح نصه رمزية مطلقة ، ولا يجعل علاماته تعبيرية خالصة بل سيحافظ على مناخ النص ، كصياغة للختم العراقي القديم . انه مثلاً ، يتمسك بتوحيد التجربة ، وليس تشتيتها .. وهو لا يفكك ، بل يبني .
وفي هذا المنحى ، يصير ( الختم ) توقيعاً : فالذات ستكون المحور ، ولكن ليس على حساب البعد الشعري . فعبد الكريم لا يجعل أعماله تطبيقات لنظريات الفن . فالفنان يواجهنا بعلامات توحدها البنية الشعرية للنص .. لان الإضافات لديه ، وان كانت تاتي من سياق الفن الحديث ، لكنها لا تتخلى عن جذورها ، وعن احالتنا ( 1 ) البيئة ، والازياء ، والعمارة ( 2 ) والى الموروث الشعبي الذي يشكل علامة بصرية – نفسية في تجاربه . والمعنى المقصود بالحذف ، يكمن في منح ( سلطة ) الماضي حضوراً ، خفياً ، متداخلاً ، مندمجاً ؛ هذه السلطة ، ستغدو ممارسة لبناء النص بحسب الفنان ، ومن منظور الامتداد ، وليس المحاكاة . فهناك تجارب قائمة على الاستعارة ، تجارب مدهشة ، لكنها لا تمارس سلطة الحذف وضرورته أمام مشروع ( التعبير ) : لان الإضافة ، في البناء الشكلي ، تتم عبر معالجة ( التذكر – التخيل ) .. ففي هذه التجارب ، التي اعتمدت أقنعة الحداثة ، تغيب فعالية ( الذات ) ، وحساسية البعد الجمالي أخيرا .
ان سعدون اختبر ذاته ، أمام مدارس الفن ، قلب المفاهيم ، وتمويهها ، ليحدد مساره باتجاه مساحة صريحة للرؤية ، وللنص . فهو لا يحذف آلا ما يضعه ، كتراكم ، حتى تغدو بنص نصوصه اثراً . هذا الأحياء الرمزي ، والبصري ، للتكنيك ، يوحد المعنى بهاجسه الشعري : المنطق او الحكمة بالتمرد لصالح المزاوجة بين النص ، ومخفياته . فالتراكم ، في الاخير ، يغدو حذفاً : دفناً لهيمنات ستظهر بشرعية مناسبة . وستشكل تجربة سعدون ، وهي لا تغادر جغرافيتها ، ولا تاريخها ، الامتداد لخطاب لم يغب عن الجيل الذي أعقب الرواد : عند العزاوي مثلاً . ولكن خبرة سعدون ، النظرية او على صعيد ممارسته لفن التصميم ، منحته فرصة تامل اسئلة مبكرة : ما الذي تمثله الدهشة ، آية دهشة ، في الحب او الموت ، ان لم تصر علامة ، داخل النص ؟ يقابل هذا السؤال : ما الجدوى من نص لا يحيلنا الى مجال ابعد ، ليس بالضرورة ، الى باعثه الأول . فاشكالات حضارة الالفية الثالثة ، لا تخص موت ( الإنسان ) وفنه ، بل ، كيف سيشكل المغزى الشعري قيمة وجود ؟
ان سعدون لا يمارس مفهوم ( التناص ) ، بل – هو – يحافظ على ذاكرة يتدخل فيها الخيال ، فالمستقبل يمارس سلطته : انها سلطة تجعل الازمنة متجاورة . واذا كان الفنان قد ابعد هواجسه ( الكونية ) – والميتافيزيقية – كفلسفة وكأسلوب ، فذلك لتمسكه بالمرئيات ، لا باعتبارها نفعية وقابلة للقياس ، بل لأنها مادة الشعري في النص . فرسوماته هي امتداد لرسومات سابقة ، ولكنها ، تمسك بأبدية الدهشة : المازق الذي يخص الجسد ، والمعاني الاعتبارية . فالفنان لا يغادر عصر ( النقش ) في حضارة وادي الرافدين ، لكنه يتمسك برسم وحفر علامات تخص ذاكرته فهو يجاور مدافنه المقدسة . ولكنه لا يكف عن إقامة الأعياد .

الرأس / تموز / الانبعاث

غياب الحياة ، عند السكان القدماء ، لم يلغ البحث عن الديمومة . ثمة ( محرك ) سلبي واخر يخص الامتداد ، يتكون عبر الجسد ، وخارج إرادة الإنسان .
فصار الموت إشكالية في جوهر الموجود .. ولكن الميت ، راح يعبر عن نفيه لوجوده السلبي ، في الانبعاث . أنها اساطير العصر العصر الزراعي المبكر . فبعد ان تعلم الانسان الزراعة ، أدرك ضرورة دفن البذرة ، لكي تخرج يانعة . ولكن قبل هذه المرحلة المبكرة من الوعي بأوليات قانون الجدل ، ونفي النفي ، وموت الإنسان ، شعر الإنسان ما قبل العصر الزراعي ، بضرورة دفن الميت ، وطرده خارج نظام الحياة . انه اصبح شكلاً ، علامة ، رمزاً ، ينطوي على الخطر ، والخوف . بيد ان الموتى ، عبر الازمنة ، اصبحوا مادة الحياة ذاتها . فالأساطير تؤكد اهمية دورهم في التحكم بالوعي ، بالذاكرة الغاطسة ، وبدور المخيلة في الحفاظ على الوجود .
ومهما تعددت أسباب الموت ، الا أنها تنضوي على استفزاز لصياغة أسئلة متجددة : لماذا الموت ؟ فالإحساس العميق بغياب حرية الميلاد ، والموت ، عند الإنسان ، جعل المسافة الزمنية بينهما محكومة بهذا القانون .
فلم يتطابق الوعي ، في أشكاله المختلفة ، مع هذا القانون . فصار الموت قضية بالغة الإرباك ، على الرغم من الحلول المادية المباشرة ، او المثالية – الميتافيزيقية لها . ان الإنسان يذهب إلى الموت  بسلبه الحياة . انه يقهر ، وفي الغالب ، ثمة إحساس انه يموت قبل الأوان ، أي اختصار المسافة الزمنية بين المطلقين او المجهولين ، وانه ، فوق كل ذلك ، وهو الذي لم تكن له إرادة الوجود ، يذق ما لا يوصف من احتفالات الالم ، والفكاهة السوداء ومع هذا كله ، فلا يكف الكائن الحي ، من اختراع أساطير الأمل ، وفي مقدمتها ، الاحتفاء بذكرى الموتى : الدفن الذي يقود ، إلى الميلاد . 
هذه الإشارة الطويلة ، نسبياً ولدها اختيار كريم سعدون للراس الوحيد ، الذي سيتكرر ، في نصوصه الجمالية – التعبيرية . وإذا كان من الإجحاف ، وليس من شروط الكتابة ، التوقف عند الأسباب ، فعلينا ان نعود لتفحص العلاقة بين ( التذكر – والتخيل ) تصبح فكرة الراس مادة الاثارة البصرية : انه استذكار اقدم اسئلة الفزع الأول ، حيث التكرار يأتي كجزء من جدل الوجود . والفانان ، بهذا التكرار، لا يغفل مادة الوجود ، او الأمل الكامن فيها ، فثمة احتفال يشبه العيد يوازن موضوع الموت . ولكن (( راس )) عبد الكريم سعدون ، داخل النص ، لايصبح مجهولاً ، فهو يواجهنا : عينان تحدقان في المشاهد ، الصانع الاخر لدينامية أسطورة التضاد : عينان كظميتان ، لا تذرفان الدم ، مطوقتان بحنين مؤجل ومستحيل : عينان تبثان الاسئلة ، لكي تتداخل وظيفة المعنى بعناصر الرسم ، حتى نكاد نفعل الأخير ، لصالح أسطورة القهر ، والاغتراب . ولان الفن ينحاز للامتداد ، فان السكون ، يغدو حركة . ولان عبد الكريم سعدون مشبع بروافد شعبية ، بصرية ، وسمعية حد الخرافات التي ما زالت تسكننا ، فضلاً عن كمون مادة التعبير ، ورهافة استجابته للمرئيات ، وتمتعه ، بشكل عام ، بخلق متوارث .. الخ فان الرسم ، صار يقترب من وظيفة السحر . لا لأن الموت ، في أزمنته كافة ، يستدعي ذلك ، بل لان غياب الحياة يقود ، لكي تستقيم ، وتستكمل دورتها ، هذا الموت . وعملية عدم إخفاء الرأس ، الوحيد المهجور ، له أسئلته . انه البذرة التي تنتظر التراب : النزول إلى العالم الأسفل ، ليغدو السر وظيفة ، ضرورة غير قابلة للدحض ، وهو قدر كل كائن منح لذة التعرف على الموجودات ، حسب المدونات السومرية والمصرية والبابلية والسورية ، ولكن الرأس ما زال ينتمي إلى المشهد الحياتي : فهل هو الفكر الذي لا يمكن تدميره ؟ ما هذا الفكر . ؟ خاصة ، منذ بدء الخليقة ، لم يكن الفكر ألا صياغة بالغة التعقيد للمسافة الزمنية بين مطلقين . ان الفكر يبث أسئلته – ماذا تراه يفعل .. والماضي ، إلى جانب المستقبل ، حركة حركة كامنة في الصفر الكوني ؟ لسنا نحمل النفس إضافات تاملية الا لانه يدفعنا إلى النص مجاور .. فكل كلمة ، تكاد تشبه – وفي الكتابة المشرقية تحديداً منذ سومر وحتى الكتابة الصينية المقطعية وذات الجذر الصوري – هذا الرأس الذي يحمل إرادة غائبة ، وسيزول ، وبهذه الإرادة ، تاركاً إرادة الأسئلة ، التي تتكابر ، للتدمير – وصناعة – الزمن ما بينهما . أن النتائج ، أن ارتبطت بمقدماتها ، فهي باطلة . اليس باطل الاباطيل باطل ؟ ان سعدون ، في الغالب ، يحذف عنصر المأساة ، والتوتر – التعبيري – لصالح الصمت .
ففي الصمت ، تكمن استراحة ( البذرة ) – الرأس – والكلمة داخل الكتاب ، حيث الانتظار يغدو قيمة .. وهي التي أنتجت أساطير الشعوب ، بتدفق متوازن مع المعنى الكامن في أسرار التدفق . فالعلة لا تبحث عن علة لكي تغدو شكلاً . لأن المقارنة بين ما لايمكن إثبات وجوده ، والشيء الذي يزول أمامنا ، تعسفية ، هكذا سيغدو ( الرأس ) علامة محركة للتذكر – التخيل ، وعلامة خاصة بالنص الفني . فالمعنى الذي يكمن في الرسم ، مثل اللون الأخضر الذي صار صفة للشجرة . ومثل الرسم الذي هو مدلول لوجود الرسام . إنها فعالية زمن محصور بين لا زمنين : وجود يحمل وجوده في ذاته . ومثل هذه النتيجة لا تقف مضادة للمادية الجدلية . ولكن الأخيرة , لكي لا تصطدم بما فوق المعنى ، او بكل ما هو خارج الوعي ، فأنها تحافظ على أداة القياس ، الوجود ، الذي يحمل سر غيابه بوجوده . ولا اعرف حقاً أن هناك فكراً مثالياً ، ان لم يكن اسطورياً ، لن يقدس عمليات الدفن : تموز الذي اذهب إلى عالم الظلمات .. ونزول اينانا الى عالم الموت وخروجها ، المرئي، كخصب يتحدى السكون آو الصغر الكوني اقصد اني لا اجهل تماماً كيف تغدو الأسطورة في نظام عملها المحكم مضادة لشفافية الوجود . فالأسئلة ، في هذه المعالجة ، تغدو محركاً للأشكال . ولن تكون هناك إجابة أخيرة ، ان كان الوجود برمته حلماً ابدياً او مقبرة للأحياء والأموات ، الا وقد تضمنت
  ( لماذا ) . لان كل مهارة ، مهما بلغت درجة التسامي والإشباع ، لن تتخلى عن منطلقها : ليس لان ثمة دورة كونية ، بلا حدود قياسا بالمتناهي ، وانما لان المرئي ، لن يكتسب قيمة السؤال ، آلا بمخفياته . وهنا لا تتهم إعادة غير مبررة لأسئلة المطلق ، ولكن ، الحد الثاني ، بعد تلمس المرئيات يكمن في حقيقة الغياب.
      على ان رسومات سعدون ، قد لا تشتغل بهذا كله . وان ( الكلمة ) ليست الراس المقطوع في معركة ذات طرف واحد ، وان دفن الراس ، سياتي بعد موت ( الفنان ) ، وزوال النص لصالح الاثر ، بل – ربما – سيغدو هذا كله جزء من نظام اخر ، بلا دال ولا مدلول ، وذلك تمسك الفنان ، في مرئياته ، بحساسية شعبية ، تبلغ حد الترف الجمالي : الزخرفي واللوني … ومنح النص ، قيمة تعبيرية شعبية ، ترجعنا ، الى ( الختم ) العراقي ، والى العصور الزراعية مع غياب  ( عشتار ) المطلق . هنا ، أعود الى الرأس باعتباره – ربما – يمثل تموز القتيل ، الذي سيوارى ثقل الظلمات الى عالم الموت الكثيف ، حيث يستم الامساك بكثافة البرد والظلام . تموز هنا ، ضحية ظاهرة – مرئية – في المسافة المحصورة بين لا مسافتين ، وهو ضحية : عشتار ، امرأة ، حواء ، الحياة – بكل الاسماء التي حملتها قوة الموت وقوة البعث – فالوجود – المسافة القابلة للقياس ، لأنها في تحول دائم – ولادة أبدية ، مثلما هو الموت الأبدي . وعندما يقف المنطق – منطق  الوعي والكتابة – منتظرا نفيه ، فان المسافة الوجيزة ، ستغدو قرباناً ، فدية ، ضحية تتجاوز منطق التحليل والشرح . ان تموز الذي يحدق فينا ، يتضمن أسرار عشتار بكل صفاتها المزدوجة ، كإلهة الحرب والحب ، للموت والبعث ، سيصير نصا ، للذة مزدوجة ، للسم والعلاج ، للغياب والحضور ، للحد المشترك بين الوعي واللاوعي ، للمقبرة والمزرعة ، للوفاء والغدر للكون وللمرئيات : انه الذي يعيد لنا البصر ، من اجل رؤية ابعد .

     تحولات

يصعب تحديد اتجاه الرمز الا في حدود إثارة تكراره : الانتقال من عهد الإله ألام الى عهد هيمنة الذكورة ، حيث لا يتم الاحتفال بهذا التحول ، الا جزئيا ، ولكن تثير هذه الأعمال ، بصورة غير مباشرة ان التضحية سترافق التحولات .. لان القضية لا تخص الوعي ، بل المحرك ، او اللاشعور الذي اخذ يفرض سيادته في الخطاب او على صعيد قسوة الشكل المركزي اما أمام حركة متواصلة بين القمر ، العهد القديم للخصب ، والراس المعزول ، انه لم يكن المرئي ، وسط المتاهات ، حركة لا يمكن ان تكون عفوية ، او بلا أسباب . وبشكل متواصل تبرهن البصريات أنها تحدث عن عوامل لا شرطية تجعل من المحرك باعثاً على وجود الأسطورة . فالتكرار للراس بحد ذاته يعيد للدراما مغزاها في الفكر المعاصر . وفي هذا المدى ستظهر الأرض صريحة في علاقتها مع السماء . فثمة فضاء كوني يمسك بعلاماته. ان الرسام بهذا التكرار ، يجعل حتمية التضحية صريحة . فالمعنى – على صعيد الشكل يصبح لازمة للحفاظ على مناخ الأسطورة . انها أسطورة تتحدث عن صراع بلا نهاية . فالقوة المحركة للعناصر ، قائمة ابدا داخل النص ، الختم المتجدد ، او التوقيع الحديث ، كإشارة لعلاقة الذات بمنفاها . او بقانونها . كما ان الحفاظ على قوة التعبير يمنح المضمون سيادته البصرية. وقد بذل سعدون جهدا في احتواء ( الصراع ) : هذا التحول والتصادم الذي حافظ على طابعه الدرامي . والمأساوي ، الجهد في منح الرسم لغة الظاهرة ، ودور المراقب عن بعد . كأن الفنان ، بالرسم ، يكشف عما وراء القناع ، لكن رموزه عن بعد . كان الفنان ، بالرسم ، يكشف عما وراء القناع ، لكن رموزه تسحبنا الى الارض ، السطح اكثر من ضرورة الحفر في الداخل ، فالفضاء ذاته لا يقبل الشطر او الفصل ، انه سيغدو الصراع المكون للوعي الفني ذاته ، بعد اجراء تحول من الرمز الى العلامة . فالحركة تكاد تخفي معناها ، القمر القديم ، والخصب المؤجل . وقد يبدو هذا التحليل حفراً في السطح ، ولصالح المحتوى ، لولا ان الرسام ، سيتمسك بحلول عفوية وربما مقصودة لموروثات شعبية . فالمشاهد سيكون داخل متحفه المتحرك ايضا . وانه سيجد في التخيّل ، قوة مزدوجة نحو الماضي او نحو الأمام : القوة لها فعلها السحري المرتبط بطقوس الخصب المؤجل .. فثمة مناخ مستعاد لعصور سحيقة غدت شعبية .. ومن الصعب الاقتناع ان الرسم لا يكتم المجال الصوتي ، باعتباره أخفى أصواته ، او ان الضوء يصلنا قبل الدوي ، وانما تسمعنا رسومات سعدون اصوات الاثر ، كلام الصمت ، بأعماله التي ستصير سلسلة من النقوش التعبيرية . فالرسام لا يزخرف ، ولا يجعل عنصر القناع لعبة مسرحية ، بالرغم من طغيان فسلجة الجسد بعد ان اصبح بؤرة محركة لباقي العناصر . ان هذا التحليل يعيد الاعتبار للغاطس داخل الأشكال : النذر . فكأننا في احد أعياد الحصاد او الزواج . لكن الرسام يخفي لوعته ، وهو الآخر ، سيسكت ، ليترك الرسم في حركته المتواصلة .فثمة مجال للتذكر والتخيّل ،داخل الزمن الفني : زمن التنفيذ الذي سيصير زمن تأليف المشاهد للنص . وقد يكون سعدون برمزه قد قصد موت ( الفنان ) الذي هو عملية إحيائية لطقوس جريمة القتل . فالأشياء تكون المعنى ، والمعنى لا يعزل عن ميتافيزيقيا في النهاية. فالرأس – النذر – العلامة ، الوثيقة ، الشاهد ، يفصح عن مغزى العلاقة بين الأضداد . هذا البث البصري لقوة خفية . لأسطورة انتصار لا أحد .. حيث النص يولد بوحدة جدلية مع صياغة الأثر.

     التذكر والامتداد

في الرسم المعاصر ، في العراق ، وباستثناء تجارب نادرة ، تكمن قوة التعبير   بالحفاظ على الأشكال المحذوفة. فهناك اكتظاظ للمادة . وفي ذات الوقت ، لا يتم إلغاء الكلام . في هذا المجال ، يتذكر الرسام ، رموز أحلامه المسيطرة : الصحراء وقد غدت خلفية لنماذجه المختارة ، او السماء كفضاء مغلق . ان سعدون ليكاد يوقف عمله ( الحر ) بإغلاق الفضاء ، أولاً وبجعل مفهوم الرسم اقل لعباً ثانيا . فالبعد الخلقي ، الشفاهي والمدون لحكاية الموت المعلنة يظهر صريحاً فهناك هيمنة لفعل ضاغط لارتواء ناقص . فالفنان يعيدنا الى أزمنة تخلو من ضوضاء الالفية الثالثة فليس ثمة تقنيات او ايحاءات بهذا العصر لكن الفزع المرصود في ذلك الماضي السحيق له سمة الأبدية ولعل تكرار المعنى تكرار الرأس تموز الانتظار وغياب العناصر الأنثوية يجعل الزمن متداخلا فالتحولات محكومة بالعلاقات المتضادة فأين يكمن الامتداد هل في تخيل واستعادة نهاية الأسطورة نهاية عصر الرسم ام في شيء ابعد من ذلك في المنفى الإنساني ذاته ؟ قلت ان رسومات سعدون تشبه النذر الفدية التضحية وذلك بسبب جذوره نحو الحكايات الشعبية ولكن نظامه التعبيري يجعل الفضاء مقيداً كتلة تتشظى الى اجزاء تدور حول مركزها . وهنا يغيب اللعب او الرقص او الاحتفال فالامتداد يغدو ارتدادا .. وكأن الامل ليس الا اعادة صياغة لحدث ملح يدفع بالرسم الى الحكاية وهل ثمة اكثر بلاغة من الصمت في مزاوجته بين الكتمان والإعلان ان الامتداد سيغدو نقطة لقاء في المشهد المرئي في لحظة التنفيذ او في طقس الرسم الذي هو استعادة لعصر الخصب الزراعي أننا بصدد تشريح الحلم في مستواه المرئي لان عملية الرسم ستنتج بيدراً من العلامات : بيد ان سعدون لا يغادر فكرة العصر القديم عصر الجسد فثمة رثاء مشوب بالأسى للانتهاك الذي يتكرر – رمزيا – لنموذجه التموزي ، ومغادرة عصر الخصب الذي شكّل لا شعوره العميق : هذا التصادم ، يحافظ على التعبير بالرسم في مواجهة التصميم . فإذا كان فهمي القيسي – مثلا – قد وجد الحل بالوحدة وببناء تتلاشى فيه الأضداد ، فان سعدون سيحافظ على قوة التصادم . انه يرسم بقسوة فلاح يزرع أساطيره . أنها حركة دائرية والإعلان التصميمي لرموز الفداء يمنح خيال المشاهد استئناف الحركة فالفنان يزيح الفعل السحري للمطلق بالملمس الخشن المستمد من روح الرسم في العراق ويتوقف عند المساحات القابلة للقياس والتحديد فالفنان لا يحيلنا الا ضمنا الى الطبيعة او ملحقاتها . انه يتوقف عند المعنى ، الفكرة اللا شعورية للاغتراب ، والفزع المكتوم ، الذي يذكرنا بالعصور الزراعية ، حيث يمارس تكوين نقوشه ، وهي تكتم ما تريد ان تعلنه . الأرض وهي تنطق بصمتها . وماذا يريد الفن ان يقول اكثر من هذا متخذا من الفنان قضية في الوجود ، او في الغياب. فسعدون يلمّح بالرمز والعلامات الصريحة انه منشغل بالأسئلة (1) وانه، في المجال ذاته، يجاور عهد الأسطورة القائمة بمحاذاته (2) فهو لا يصنع مسرحه، وتصاميمه للأحداث، الا كجزء منها (3) حيث تدخل الرؤية الجمالية ، وانطلاقا من ظاهرة حاضرة في الرسم المعاصر في العراق ، بقاع الخراب:هذه مفارقة بين الجميل والمأساوي، تتوحد، وتفصح عن البعد الاجتماعي، والثقافي، والنفسي، (4) انها نزعة توحيد أقنعة ، تذكر ملح لصدمات متكررة المأساوي الى جانب الجمالي . واذا كانت ثمة حلول متواصلة في المعالجة فان سعدون، هو الاخر، يتخلى عن التصميم لصالح الرسم .. ولكنه لا يذهب مذهب ان يكون – هو – الرسم كما في كل فعل سلبي يتوخى الإيجاب . فالفنان يتخيّل ما يراه مع استذكار مناخات لم تعد غاطسة او مكبوتة في الوعي.. انه يوازن بين التضادات. فالفعل المأساوي قد لا يكون الا طقساً يخص بنية الوجود : لان الموت ذاته سيدخل في تكوين الكينونة : الوجود .. والنص في الأخير. فالرمز القابل للتأويل بعد آلف سنة سيندمج بنصوص اقدم حيث يصبح المعادل الجمالي، توازنات بين الصّور، المشاهد، والرسم، وبين الأفكار، والمعاني، والأساطير . فالفنان الذي يقف في قلب التحولات، يقف خارجها. انه لا يستطيع ان يفعل اكثر من هذا.. والا اصبح الفن شيئا آخر ، او فقد امتيازه في المشهد المسرحي الوجودي فالذات لا تغيب، ولا تتوحد : فعلامات الوعي تجاور الجسد – الرأس – في منفاه، مع انها لا تحافظ الا على زمن اغترابها . كأن الإنسان وجد بصورة غير صحيحة، وليس بانتظار الا تعديلات  متواصلة ، والأخيرة، منذ فجر الوعي، ومنذ نشاة الأساطير، ما زالت قائمة, لان الميتافيزيق، والحدس، والسحر، والتوحد الصوفي الشفاف، لا ينفصل عن ظواهر الوجود الأخرى، داخل النص الفني. ثمة نزعة إخفاء لقبول الحتمية ، تأجيل ، تحايل ، مع الإحساس الدائم بالفناء.  هذا الطريق، عند سعدون، يرتبط بالفعل، ولا يتأسس على هدم ( الأمل ) من اجل الأمل . أي ان عدم الانتظار لا يتوازن مع نقيضه. انه يجعلنا في انتظار ماضينا، لانه يتذكر، ويجعلنا نتخيل موتنا، لأننا تخيلنا مستقبلنا . هنا ثمة محاولة لتفكيك ( زمن ) الأسطورة ، هذا الزمن الواحد : الكتلة وقد غدت مرئية، ملموسة، وكان عملية النقش، وصناعة الأختام – التواقيع – المعاصرة ،ليست الا الاعتراف بإمكانية مادة الخطاب، ومداه القابل للتعبير. فالزمن، في رسوماته، يتجاهل الصفر لانه يجعلنا نحاذي منفانا ، بلذة مشاكسة تجعل الغاطس يتموج حراً داخل قوة القدر ، او المطلق .

    التشخيص وفضاء اللاوعي

لكم يتخل الفنان عن التشخيص (1) ولا عن تحوير الأشكال الإنسانية (2) ولا عن السعي لجعلها تبلغ درجة الرمز (3) والعلامة (4) . ان الفنان في افق حداثة الرسم في العراق، طوال القرن الماضي، تمسك بخلاصات لم تدفعه الى التطرف في معالجات أساليب الحداثة . هذا المنحى على العكس من تجارب غامرت بالتحديد على حساب الخبرة البصرية المستمدة من البيئة ،جعله يختار خطابه بعيدا عن المبالغة . وستظهر أهمية اختيار التشخيص، لا كنزعة إنسانية ترجعنا الى حقب محددة، وانما تضعنا في عمق مشكلة الفن فالمنجز الفني غدا ملازما الواقع ،والحلم، معا : انه لا يتخلى عن وظائفه المتعارف عليها، الى جانب إخفاء محركاته الداخلية. ومهما يكن من سيادة للأفكار والتيارات الحدثية اليوم، بما تتضمن من نزعات ما بعد الحداثة، والبرغماتية، الجديدة ومحاولات التشبث بإلغاء الإنسان والتحدث عن ميتافيزيقيا جديدة قائمة على اتجاهات ما بعد راس المال ، والعولمة باعتبارها صفة كلية الخ فان التاريخ ما يزال من صنع الإنسان . كما ان الطبيعة، هي الأخرى، لم تنفصل عن مكونات الفعل التخيّلي، والجمالي، لمصير الوجود. ان سعدون الذي يتخصص في المجال الطباعي، ويلامس مغزى دخول التقنيات الاكثر حداثة في تكوين العلاقات الجديدة للفن داخل الحياة المعاصرة ، ويفكر بالتضادات والصراعات والحوار الأكثر توغلا في المصائر، يتمسك بلا وعيه، وبالبصريات البيئية، وبالتشخيص. انه لا يقف ضد تيار أخير، او باعتباره معيار الحكم، وانما ينحاز لفطرة ترجعنا الى جذورها الأولى . فثمة حنين متكرر للأرض، والأمثلة الشعبية، والأرض، والأساطير. فتجاربه التي تتمسك بالتشخيص لا تعبر عن نزعتها الإنسانية والواقعية كحد مغاير للتجريد ، او للتسامي، وانما تجعل واقعية المشهد، واثره، جزءً من الخطاب الجمالي المتوازن بين فعل التذكر، وصياغة أحلام التخيّل: موازنة توقف عملية الإزاحة، والإلغاء.. وتجعل التأمل متصلا بالتحولات. وعلى الرغم من حفاظه على النزعة التعبيرية، فان نصه سيحمل آثار الفنون الشعبية، كما سيجعل نصه مختبرا لدوافعه النفسية والعقلية معا. فالتشخيص، بحد ذاته، يوازن بين اللاوعي التقليدي، وتصوير الموضوعات ذاته النزعة الإنسانية، وبين العودة الى تحرير هذا ( اللاوعي ) وجعله وعيا كليا . ان المصطلحات لا تتحكم في مسار التجربة .. لان الفنان يتوخى حريته، داخل مناخ فني تشوب نزعة التجريب، والتدمير، والابتذال. وفي هذا التحديد يصبح زمن الفن زمنا مشتركا بين الماضي السحيق، والحاضر: فالإنسان الذي يحافظ على كيانه ، منح الواقعية سمتها في الخطاب لدى الفنان لان الفنان يحافظ على كيانه منح الواقعية سمتها في  الخطاب. لان الفنان يحافظ على جسور مع الآخر.. فالابتهاج اللوني، الذي يبدو كنقيض للموضوعات التعبيرية، وذات النزعة المأساوية، يكمل عناصر اللوحة. فالفنان اليوم لا يفكر بنص خالص، او بوليد شرعي لاباء شرعيين، لكن عملية الانبعاث، في المعنى الأسطوري، تعدل من قسوة الحكم. فالتراكم، وقنوات المعرفة المتباينة، وتعددية الأهداف، تجعل البنية اقل قطيعة مع مرجعياتها. ان أنسانا بذاكرة جديدة – او بلا ذاكرة – لم يولد بعد . وقد وضع سعدون تجاربه داخل تنوع مدارس الرسم، ولم يتخل عن الرمز الإنساني وجسوره مع المحيط . فأعماله تحافظ على نزعتها الواقعية كجزء من مكونات رؤيته وستتكرر الشيمات مع تنوع المناخ اللوني تبعا للرؤية فالاستقرار الداخلي الذي يتمتع به يجعله حذرا من المغامرة او الخروج على سياق تجربة متماسكة ان سعدون يؤدي في مجال من مجالات عمله كرسام دور النقاش الحفار الطباعي لاستكمال شروط الختم المعاصر.. ولكنه يفعل ذلك بالرسم ، وليس بالنحت ، ولكن إخفاء دراسته او جذوره النحتية لا يبدو سهلا فثمة مزاوجة وظيفية بينهما هي التي ادت الى هذا التوازن والنحاتون بشكل عام ستبقى تشغلهم مشكلة الفراغ والكتلة بينما نجد سعدون في مجال الرسم يشغل المساحات بالخطوط والأشكال والتغاير اللوني مع تمسكه بالكتلة أنها مزاوجة في الوظيفة وتعبر عن انتماء لتقاليد لم يتخلص منها حتى فائق حسن الذي بدا حياته نحاتا مثله كمثل جواد سليم وخالد الرحال فعنصر الوحدة بينهما لم يؤد الى ازدواجية بل الى صهر ووحدة لان احدهما غدا مكملا وليس مجاورا للآخر اصبح اللون مستقلا في التعبير مع انه يحافظ على صلابة الشكل وحدوده النحتية .

      حكمة اللامسمى

من بين النصوص الفنية التي حافظت على قيمتها الجمالية تمتلك النصوص الشعبية أهمية خاصة فثمة دينامية ما زالت تمتلكها تعبر عن اللاوعي الجمعي والخصائص التي تجمع بين التنوع والغزارة وبين الحساسية والتعبير الفني فحكمة اللامسمى في التعبير الجمالي تمتلك مقاومة الازاحات الخارجية انها ليست فكرة التكرار او تمثل المرئيات وتحويرها بصورة عفوية او إلية وانما لان الفن امتزج بمادة التعبير وبخطابة في مواجهة الخارج وقد سبق لبغداد كرمز لحضارة موغلة بالقدم ان تعرضت لخطر ابادات كلية، يذكرنا باندراس عواصم شتى تحولت إلى اثار ومنسيات تم حفرها واعادتها الى الذاكرة، مثل بقايا بابل ونينوى بيد ان مفهوم تقاليد ( الخلفة ) او البناء العراقي وما زالت تمتلك مقوماتها لعوامل الازاحة وفقدان الهوية .
   وخلال القرن الماضي ومع بواكير النهضة في نهاية القرن التاسع عشر كان الموروث اللامسمى، الشعبي بنبضه العميق، وبمختلف أجناسه، يشكل عنصرا او رافدا سيدخل في التجارب الحديثة عند الرسام العراقي. ويشكل هذا الموروث مادة
لا تنفصل عن الاساليب المرئية لدى الرواد منذ منتصف القرن العشرين. فالطاقة التي يمتلكها نظام التعبير الشعبي، سيجاور، ويحاور، اساليب التجديد في التشكيل المعاصر.
وسعدون في تأملاته للرسم المنجز، وللموروث ذاته، سيجعل منه مرجعاً مزدوجا بين الوعي، واللاوعي، في بناء تجاربه الأسلوبية فسيدرس المناخ الشعبي، وعلاقة الرموز والعلامات بالمحركات اليومية لدى عامة الناس ، ولدى اكثر الشرائح حساسية وصدقاً في المعاناة. فقد حافظ التشكيل الشعبي، وفي اكثر المراحل قطعية عن الحضارة، والعالم الخارجي، على النبض الكامن في الحياة الاجتماعية والثقافية والنفسية. فقد تأمل مئات او آلاف النماذج التي تواجهه يوميا حيث ستشكل جزءاً من بنيته نصه الحديث: الأبواب القديمة، ورسومات الأقمشة، ونقوش الأواني والخشب، الصور الشعبية في المقاهي، وأساليب البناء المتوارثة وبقايا علامات قديمة تحافظ على مغزاها اليومي في البيت والشارع والأسواق .. الخ أنها ذاكرة منحت البصر جسراً نحو التاريخ : الجذور الكامنة وراء المرئيات. لكن سعدون لا يزخرف، انه يحذف، وعملية الحذف منحته حرية استثمار تحويرات الأشكال الشعبية فهو، هندسيا، لن يتخلى عن الدائرة او المثلث.. ولونياً سيمنح الألوان الصريحة بعداً تعبيرياً لا ينفصل عن موضوعاته. كما سيمنح الأشكال البشرية، والموجه تحديداً، علاقة بالأشكال الواقعية. فالفنان لا يقيم مهرجانا لونياً ورمزياً او أسطوريا لأسلوبه، وانما وجد انه يسكن في هذا البيت الكبير. لقد اعاد للأشكال المنسية ومغزاها في المعالجات الجديدة: انه غير نظام البناء، في محاولة متواصلة للحفاظ على الجوهر : مغزى المقاومة، والحفاظ على العلامات في وجودها الجديد. وقد تشكل نصوصه استذكاراً لمشاهد مسرحية لمناسبات شعبية شتى، وهي عمليا مجاورة لحياة مدنية تخضع لسلسلة من الصدمات، والتحولات. فمادة الكنوز الشعبية خلاصة ضمير بالدرجة الأولى، وقد انشد عبد الكريم سعدون لخطاب الأشكال والألوان، فالصمت الذي تمتلكه يروي مخفياته. والحداثة في الرسم العراقي ، ومصطلح حداثة هو امتداد لفكرة التحديث الى جانب تقنيات الحداثة الأوربية -  لدى جواد سليم او خالد الرحال او الشيخلي مثلا- لم تغفل هذا الجانب. وسعدون، بعد نصف قرن، لا يريد ان يقول، ولا يريد ان يخفي، الا في حدود منح النص توازنه بين المرجعيات، والأثر، وبين النص في تكونه الجديد. فالرسام لا يعيد رسم الواقع، ولا يستنسخ الحروف أو الأشكال، وانما يركب، بمفهوم التناص، روحية أو جوهر اللامسمى في دينامية التراث  الشعبي. انه يحافظ على ذاكرته، لانه راح يتخيل نصه كعلامات تركيبية، جمالية، ورمزية، في زمنها الجديد .. وهذا ما كان جواد سليم قد صاغه في بغدادياته، حيث اعاد صياغة المشاهد الأكثر خفاءً ، وحميمية ، ولوعة ، وعشقا ، في رسومات القيلولة وليلة الحناء ومشاهد الصيف والبغداديات الأخرى . عبد الكريم سعدون ، في شرعية المسار ذاته ، يتوقف عند ( الفلاح ) كعلامة لأسطورة لم تفقد رمزيتها في التعبير : هذا الفلاح ، وفضاء السماء ، وزخارف الأرض ، تتجمع داخل نقش،ختمٍ،عملة صغيرة منقوشة في بساط بلا حدود ،ليتحرك داخل ذاكرة تواجه بصريات أخرى ، ولا يغادر محيطه الشعبي . وعبد الكريم سعدون، في مجال الرسم ، لا يستعرض او يستعيد ، بل يدمج ، ويركب ، ومفهوم التناص منحه حرية الحذف ، والاختيار في رسم العلامات الدالة . فالفلاح – في نصوصه – مادة الحضارة ، وهو الذي لا يفارق الأرض ، ورموزها : انه تموز آخر ينبعث من الخراب ، ويؤسس مكانه ، داخل الذاكرة . فهو لم يعد رمزاً سلبياً ، فهو يحمل الموت لينتصر عليه ، انه صفوه ، لانه – في العمق – يمتلك الفعل المزدوج : الدفن والانبعاث . ومثل هذا التضاد سيحرك نصوصه نحو الوحدة : المعنى الكامن في نقوش تسحبنا الى الأرض ، ولا تتركنا نحلق في فضاءات بلا حدود . الفنان ، يحافظ على الخيال الشعبي ، بجمالياته المرة أحيانا ، وبقسوته ، وبشفافية تجعل الموت محركا لحياة منبعثة من الرماد ، فحداثة معالجة – الموازنة – تأتي متسلسلة ، لان سعدون افصح عن مرجعياته ، وجعل نصوصه متحركة بمعالم ذاكرة الأثر ، ومكوناته : إنها نصوص تتمثل النشيد الشعبي ، ولكن بتوقيع له سماته الشعرية ، وصراعه الداخلي .

      مولد الجمال المر

لا يتقاطع الهدف الشعري عند عبد الكريم سعدون ، مع وظيفة الرسم غير المعلنة . فقد يكون البعد الجمالي إغواءً . وضرباً من الاعتراف بأستحالة تحديد موقع الحقيقة في البحث .. فثمة ، في القانون ، تضادات تتوازن بالخبرة .. بينما يتجلى الجانب الشعري ، في المعنى داخل النص . فالمعنى لا يدفعنا الى سؤال : مالمعنى .. بل يضعنا في آليات الإنجاز .. في البنية كوحدة متماسكة قد لا تعلن عن معناها الا في إشارات قليلة . فالذي كان يريده إنسان الكهف، في نصه ، ينسجم والمدى الشعري المنفتح . والشعر ، مهما اقتربنا من عملية صياغته ، يدفعنا الى اللامرئي ، في اهدافنا. وسعدون ، بلذة وجود قانون التضادات ، يتمسك بالعلامات ، والرموز ، والتحويرات، والحذف ، لرسم المناخ الشعري : القفز فوق البصريات ، ولكن بجعلها لغة للحوار ، والبث . ففي عدد قليل من رسوماته ، يظهر الفارس .. وتظهر الشمس .. ويغدو المشهد شعريا. أننا في قلب حلم يسحبنا إلى مرجعياته الأقدم .. وبالضرورة، كنتيجة ، لا يتقاطع الرسم مع ان الأسطورة : فالرسم يصير هو المعنى. ومع ان الفنان لا يترك ( لاوعية ) يعمل بحرية، فانه لا يقيّد المعنى بحتميات الإدراك الوعي ثمة شعر يمنح المشهد ذكرى ابعد لعناصر الوجود يظهر  ( القمر ) من وراء الأشكال ، علامة حنين لعاطفة بالغة الأنوثة .. وتتداخل الألوان عبر توحدها وكأنها آتية من أزمنة سحيقة وهذا الحكم ليس أدبيا او شعرياً، وانما لا يعزل الوعي عن قاعه .. وعن القاعدة التي ستتشكل في الأحلام عليا، مقلوبة، لان العلامات- في تجاربه- لا تستقر: انها متحركة بالمعنى الحسي ، المحدد ، وبالمعنى الشعري . فهدف او معنى الرسم يلتقي بصفاء أحلام فنان عاش عناصر المشهد ،في الوجود ،وفق السطح التصويري . انه لا يريد ان يقول اكثر من صمت المشهد المتحرك ذاته . فليس الحل هو ما يسعى أليه ، بل الأسئلة تنسجم مع معمار الخيال : خيال موّلد ، تتكرر عبره نمطية بعض العلامات ، كالمثلث ، الذي يحتوي رموز الخصب.. وبناء الكون ، وبعض أسس المعتقدات . خيال شعري منفذ بالرسم لان ما يريد ان يقوله ، هو تحديدا ، الذي يقوله : انه عمل أسطورة معاصرة .. وهو خطاب التصوف الشفاف : الحل الشعري الحيوي المتصل بالطبيعة ، وبالمرجعيات التشكيلية السابقة ، لان العملية ستكتسب الشرعية ، وهي تعالج المبهمات . فليس ثمة الا حجابات امام الرائي .. لان الرسم ، وهو يمنع الرؤيا ، يكوّنها شعرياً . حيث يغيب المعنى لصالح محركاته : العلامات التي تقود الى الهدف ، والهدف الذي لا يكمن الا في المتحرك . ان عبد الكريم سعدون يلخص محنة أساليب ، ولكنه ، في نصوصه ، لا يتخلى عن لذائذ الشعر ومراراته الجمالية . انه لم يغامر حتى النهاية في هذا المسار ، كما فعل رامبو او طرفة بن العبد في الشعر ، او كما فعل فان كوخ او جواد سليم في الرسم ، او كما فعل انطوان تشيخوف ويوسف إدريس في القصة .. الخ . الا انه من المؤكد – كما يحق لي ان أتخيّل مسارات متعرجة ومتوقدة ونشطة - الا يتخلى عنها . فلوثة الشعر ، ولعنته تجعل الجمال مرا ، مثل أسطورة لا تنتظر أسباب الانبعاث .  

الحلم تاويل الاحتمالات

وجدت نصوص سعدون الهندسية ، ماقبل  ان تلامسها اليد ،  و اختلافات نزع،  و صراعات من هو بجوار الجقيقة و من هو يتعذر عليه رؤيتها ..  الخ هي ذاتها لا تمتلك الا ان تمهد- و تدخل - في المصائر القادمة . انها لا تمتلك ات التملك ان توجد خارج التصادم . فالكلي لا يفضي الى افتراضات اخيرة . هذه النصوص ،  في الرسم المعاصر في العراق ،  لا تتاسس على الاختلاف .  فالنص ليس وسيطا ، بدلالة وظائف الاعلان . فالحلم، يتوخى ان يبث خفايا الاولى .  و هل ثمة خفايا؟ ان سعدون يتركنا نحلم بالاسئلة ؛ ما الذي سبق ذلك .. هل ثمة عدم سبق وجود الحلم : لا علامات ذاتها تتكون لمنح الحلم شرعية اولى:  ان الاشياء ما قبل تسبق العلامات : و في الاخير : كيف تشكل الوعي – نحو- الاخر- عبر النص الذي لا يريد ان يؤدي دور الوظيفة .. دور الوسيط ، و دور الجزء داخل الصراع ؟ ان عبد الكريم يجمع عناصره بالخبرة ، يمسك بطفولة شبة غائبة ، ليجعل منها ظاهرة ، و لا يبحث في اللاشكل الذي صار شكلا . فالعناصر البكر تبقى مادة الحلم الافتراضية . فالوسيط ( النص) الذي يريد ان يكون حلما ، يتدرج ، خطوة خطوه نحو مصيره ( الحلم ) . انه يتوقف عند الاخير ، في الانحياز الى ( الكلام – الكتابة ) امام الصمت . فعندما لا يشكلان اذى – الكلام و الصمت – فالكلام يتقدم ، مثلما يتقدم الحلم على عدمه . لان خطاب الابدية لم يصلنا بالصمت . و الحلم ، كمنطقة غير قابلة للتلوث ، عامة ، له مغزاه . فالفنان لا يرصد غياب الحركة ، و لكنه وجد ذاته تنحاز لبناء بنية تنتمي الى الحلم . لعالم يصير الصمت فيها لغة ، لغة لا نمتد للتعامل ، كوسيط ، كاخبار ، في سياق الوظيفة ، يل تشتغل الوظيفة مع النص في هدف ابعد : استعادة الفعل الاول . وقد كتبت ذلك ، و انا بصدد تحليل نصوص عاصم عبد الامير ، حيث الطفولة تغدو البذرة بكل مداها المتجمد : الدائري لكن الذي ياخذ شكل التنوع . فاستعادة براءة بهذا المعنى ، كالقول ، ان الحلم يولد مستقلا .. او كالقول ان المنفى خال من المنفيين .. حيث يتم الانحياز الى الكل ، ليغيب الحلم .. وانما البراؤة تكمن في الرؤية .. في الانحياز للاستيقاظ داخل مملكة الحلم . فالحرية لا تغدو حرية الا بنقيضها ، و النقيض ، عبر القادم ، يغدو محدودا ، لتطرد البراءة اخيرا من الفعل ، ويصير الحلم محض وظيفة خارج ارادة الحالم . فهل يرسم عبد الكريم سعدون اقدم احلامنا ، ليوقعنا في زمن الشعر البدائي ، وما قبل الاسطوري ، حيث يجمع عناصره و يتركها تتخذ نظامها – هذا – في التعبير عن احلام لا تنفصل عن مصيرها .. وهو في عصر يصير فيه الوعي ، جزا من اليته الكبرى . ان اختلاف سعدون لا يكمن في تجاهل الحرية داخل القدر ، بلى في اختيار براءة – ما- تنحاز للحلم : كشفافية لا تدوم اكثر من لمحة برق في كون تتنازعه عناصره . انه يختار حلم الخامة بانسجام المتلقي ، الجسر (النص) و البصر : البراءة باعتبارها مضادة للفعل ، و للاستهلاك . فالرسم يختار مبدأه الاول و لا ينتظر تاويلات اضافية . فشرعية الحلم الاول ، توازي ، في الوجود شرعية الضوء . فمن ذا يمتلك قدرة تحديد ماهية هذا الفعل ؟  انه الفعل ذاته ، يغدو (فعلا) لان العلاقة تصير علامة اتدل على ذاتها من غير ان تكون علامة . انه و الا هل ثمة نجم بلا فعل ؟ مرة ثانية نتورط في نظام التحليل بين الاتفع في مثالية لا تسندها الحقائق ، و بين مادية تنفي حقائقها . و لعل القول : الحالم وحده لا يعرف انه يحلم ، و لا يمتلك قدرة التاويل ، تجعلنا في مازق لا يحل الا بنفي الحلم .. فالوجود لا يبث الا بحدود الاستجابة لجزء من مصادر بثه ، كما ان المتلقي يزداد تطلعا لتجاوز ملكته ، و لا تكتمل المعادلة الا بالوساطة ، و الصراع ، حيث يتوقف زمن الحلم ، زمن كل براءة ملغاة . لكن هل العناصر ستبقى هي ذاتها تعمل بقانونها خارج ارادة او قدرات المتلقي لها ؟ نصوص سعدون تقول نعم .. و لكنها تنحاز الى النفي ! فالعناصر ليست صلبة او ضوئية .. لا تتكلم او صماء .. انها هي بكل ما تمتلك . فهي ليست عذراء او ملوثة .. ليست معتمة و ليست مضاءة .. ليست ميته و ليست حيه .. لانها عمليا خارج وعي المتلقي لها . بيد ان المتلقي ليس بلا وجود .. ليحدث ، بكل مكونات الحلم ، الوعي بالوعي ، بالتعرف على الباث و على المتلقي من خلال النص ، الذي يتوخى الا يكون(وسيطا) و انما جوهرا : مادة حية ، او كلا موحدا للثنوية في مركز لا ينفصل محيطه عنه . فليس التصادم الذي يصوره سعدون الا البراءة وقد انحاز فيها الى الحلم ، تاركا المكونات ، قوى صانعه له ، تخص الكل ، و لكنها تمنح الجزء قوة الرمز . فهل ثمة ارض للحلم تخلو من الصلابة و القسوة ، كما تريد ان( تبث) لوحات الفنان ؟ مرة اخرى نولد كاننا في الزمن الاول : الخلية التي اكتسبت شرعية ما للامتداد .. و في ذات المنحى ، شرعية جحيمها . فالاختيار المعلن – عند الفنان – يتوقف عند الحلم ، ليخفي الاستيقاظ .. و لم لا .. الم تقم كثير من الفلسفات على هذا الفعل الموحد ، بعيدا عن الاختلاف ، الحلم بمكوناته .. و المكونات التي لا وجود لها خارج الحلم . و ماذا اراد(ميرلوبونتي) ان يبرهن عليه في كتابه (المرئي و اللامرئي) في عصر غدت الضحية علامة للاخر ، و انما ، في ذات المنحى ، لا تكون الضحية ضحية الا بكونها تبث محتواها ، ولا تخفيه . فاذا كان الصوت لا يلامس السمع الا بوساطة ، و قبل كل شيء، بوجود استجابة مبرمجة لا ستلام الصوت ، فان الحلم ، هو الاخر ، يخاطب الحالم ، و الاخر ، كنزعة قائمة في الوجود . و عبد الكريم سعدون ، يكون لوعة احداث سيناريو معاصر – وقديم – خارج ارادته ، اي خارج كون الفن وسمطة ، بل كون الحلم يتكون لانه يمتلك شرعية وجوده . فهل ثمة احلاما تم استهلاكها لدرجة التلوث ؟ ان رسومات سعدون في هذا الاتجاه تتحدث عن امكانات لا تعرف الاستثناء . انه الحلم الذي يدعونا اليه ، بوحدة الاختلافات : الرسم بصفته احد نذور العيد ، ضحايا لا يتم اللهو بها حد القتل ، بالرغم من استغال الاسطورة في حداثتنا ، نذور و ضحايا توثق غياب حلم العيد ، حلم الحالم خارج اشكالية التصادم ، و التصدع . هذا الحلم ، النذر ، العيد ، يمهد لجغرافية توحد فضاء الداخل ، مع المحيط ، المسافة داخل المسافر ، و شرعية الموت داخل احتفال المولود .انها لا تجعل الحلم  منفصلا عنا ، و لا الاخر بلا جسر نحو احلامه ، انما ثمة انتظار لشرعية تكون فيه الشرعية قد بلغت درجة الحلم : شرعية تطهر مصيرها اللاحق . كضرورة الاستغفار لكل استغفار اول . لان الرسم ، الذي يتوخى ان يكون علامة ذاته ، يمتلك سياقة بلا قسر فالرسم ليس ضد الرسم ، كما في حداثات اوربية انشأها مبدا التصادم ، و قانون الاشياء ، و الانفجار الصناعي ، و انما محاولة استعادة مكونات النص البكر : الحلم ، او الفجر الذي لا يتغافل عن مصيره : أن فعل البراءة ، في حدود هذا المعطى ، لا يتخى فعلا للاستهلاك ، او دعايه لعيد . انه يتكون باضداده ليصبح الحلم هو الحالم .. و يصبح الموجود وجودا . انها اقرب الى حال المتصوف الذي يكف أن يكون نافعا أو ضارا ، أي أن يكف ان يكون كلاما او صمتا ، و في الاخير ، لا يثير (شيئا) . فالسلعة تطلب اعلان نهايتها : تراكم الاستهلاك ، و ليس الانضمام الى جغرافية الحلم . كذلك ، كما يخيل لي ، تعلن نصوص سعدون عن عيدها : انه ليس الغائب الذي ننظر ان يغير قانون الظلام – لانه لابد ان يغير قانون الضوء – بل الغائب الذي معنا ،الرسم بحدود استلامنا لبثه ، لصمته ، لانه لا يتوقف الا باعتبار المتلقي ، يعيد صياغة البث ، جاعلا من النهاية مسافة للاكتفاء : انه الشعر الذي لا يكون ابديا الا بالعبور اليها : انه الرسم و قد تخلى ان يكون شيئا ، بل سيصير مادة ذاته ، مادة للحلم الذي هو جوهر الحالم : النص و قد منح رمزيته انتشارا مناسبا .

   طفولة التكوين – الارض و العناصر

 ليس بداهة القول : كلما انحسرت الرفاهية ، و مستلزمات السكن الامن ، شاعت طريق التعبير على حساب رهافة الحس ، و الحساسية ، داخل النص . فالتعبير كمضمون رمزي او في الامام ، لا يحقق مداه الابعد ، خارج ادواته و قانونه . و منذ اول رسم انجز و له مكانته في الذاكرة ، لم يكن مقطعا ، او معرفيا خارج ضروراته . و نصوص عبد الكريم سعدون فيمنح الطفولة نداءات متواصلة ، يجمع خبرة (الصرخة) الى جانب رغبات تنتظر الاشباع . و شرعية الامتلاء لا تتناقض مع مبدا الحداثة القائم على ضرب من الاستهلاك، و اخلاء الفن من مداه الروحي ، و عقيدته بالمعنى الشفاف . فالنصوص لا تروي حكايات و لا تستذكر ماضيها عنوة .. فالرسام في الاطفال ، اشتغل في ارض الطفولة ، و عمل في صحافتها ، رساما، وقفز ، بدافع النقد ، الى جغرافية الكاريكاتير ، و الاخير ، لم يضف لتجربته ، الا ما يتوجب حذفه تماما ، كي تبقى الحساسيه متقدمة ، و منسجمة مع لذائذ التعبير . فحتى هؤلاء الذين يذهبون للموت ، بكامل حريتهم – اي بكامل الضرورة و القدر الكلي – يندمج في اختيارهم المؤلم كونها الباث و المتلقي ، لا يغدو التعبير ، في وظيفته النفعية ، جماليا ، خارج لذائذ تكاد ان تكون تلقائية ، و عفوية ، و حرية ، في وحدة النص و تماسكه . عبد الكريم سعدون يختار الخفي ، الاشكال وهي تقاوم تصلبها ، و تحجرها . انها لا تقاوم قانونها بل تريد التمسك ، بعد عناء ، بتجاورها المتكامل . وقد تكون الا ستحالة قائمة في هذا القانون ذاته : اي ان الطفولة محكومة بمدفنها ، بزوالها ، عبر قسر لا يناسب مخلية الحالم . لكن الاختيار المغاير ، ليس فنا . فالفنان لا يلعب ، بدافع الزمن الفائض ، انه يلعب داخل مملكة الاحجار . فالنص تعبير تعبير تعويضي لحياة لم تعط لحيويتها نبل القانون ذاته ، الذي بشكل من اشكاله ، يتم تدمير البراءة او العدالة او الجمال . و تاريخ الرسم العام ، يفضح انظمة التعبير : دلالة عياب التوازن ، و قهر ارق ما وهب من رهافة و حساسية : قهر الطفولة . وهذا التاريخ الطويل ، يفسر ، ظهور الرمز باعتباره تعويضيا . و عبد الكريم سعدون ، يمسك بهذا الطرف من المعادلة : طفولة مطوقة وقد غدا المركز فيها عرضة للدمار . انه يرسم مشهدا كونيا لانفجار عظيم تبتلع فيه المراكز الكبرى توابعها ، فالطفولة ليست غائبة ، الا بقوة حضورها الاستذكاري ، فاللعب امنية مؤجلة ، لم تاخذ مداها ، كي لا تدون . و لهذا سيرسم عبد الكريم –كما رسم اسلافه القدماء – طواطمهم السحرية . ز هكذا ستصبح الطفولة نداء : جسدا سلبت حقوقه ، ليخفى ، داخل الذاكرة ، ولا يستعاد الا كامنية ، و كجزء من مكونات الحلم . انه الجسد المضعضع ، المروض ، المهمش ، الذي يحدق في ماضيه ، منذ النطفة حتى ادراكه انه قد صار المنفى ، و صار من يحمل مفاتيح قلعة الحلم . فهو اسير مقدماته في الاختيار . و الطفولة ، في نصوصه ، فضائح عصر او عصور تاخذ شكل التعبير ، احيانا ، على حساب الحساسية الفنية . انما نصوصه المتوازنة تجعل من وظائف الفن ، اقل استهلاكا ، في المجال الاستهلاكي لعصرنا . فالطفولة تغدو دافعا لاحتواء (التعبير) ، و الاخير ، لا يغدو فنا خارج الحساسية . ان ارجاع الحساسية الى (حس) يحرك  وظائف الاتصال : الملمس و البصر و التذوق و الشم و السمع : انها وسائط لا تستقل بذاتها ، و انما تندمج بفعلى التعبير . فما هو غائب على صعيد الرمز (اغتراب الحلم –و الطفولة) يصبح مرئيا . فقد انتهكت انظمة البشر ، بعد ان اصبحت القرية بنية لمدينة عملاقة تستهلك منتجيها ،الطفولة . انه انتهاك احتفالي و صامت ،و ليست اعلانات او فلسفات الدفاع عن الطفولة الا امنيات . فالتنظيم القمعي يتوغى في بنية الاحتفال ، وفي الوجود كجوهر اغترابي . انها طفولة تعلن امال خائبة ، لا على صعيد الميتافيزيقيا و على صعيد التاريخ . و انتهاكها يماثل انتهاك الجسد ، مرة بعد مرة ، اذ لا ياحذ الجسد مكانته كمعادل لقوى متصارعة ، الا بتدميره . فهو يفقد قدسيته عندما ينحاز الى الارض ،و يغدو معطلا ووهما عندما يعامل كفعل اثم . لكن الطفولة تعمل داخل بنية الامتداد ، داخل التاريخ ، بكل اشكاله ، لانها تحمل في وجودها شرعية قتل ( الاباء) . وليست هيمنات الافكار المغايرة الا قناعا للصلح .. فالطفولة هي الموت الؤجل داخلها .. الامر الذي يجعل الوسط العام متصلبا – في لاوعيه – تجاه هذا العالم . انه انتقام خفي مكون من القسوة و التطهر : من القتل و الغفران .. من الدفن و انتظار البعث .. حيث تصبح اسطورة تموز ، اضاءة لجدلية القانون . عبد الكريم سعدون يرصد هذا الانتهاك ، الطحن المباشر ، لطفولة تتجمع مع رموزها : لعبها ، و اهلها ، و ارضها ، و اشجارها ، طفولة تحاصر بفضاء كثيف من القيود ، لكنها تبقى تحدق فينا : وجوه مكورة و بيضويه كانها الكرة الارضية في لحظة تكونها قبل خمسة مليارات سنة ، محاصرة بكويكبات و احجار مختلفة ، و لا تنتظر الا حركة تغير و اقعها كله : انها محاصرة بقوة ازدواجية ابدا : طفولة لا تعرف الموت .. و شيخوخة تنتظر الانبعاث ابدا . فالنص يحمل هذا التعبير عبر اشتعال الحواس و اندماجها به . فالمرئي يقودنا الى قواه المحركة . لاننا لا نستبدل على الحواس الا بمحركاتها . فالحواس تعلن عن اضطرابها ، عبر التعبير ، عبر النص حيث الفنان يجعل لوحاته شواخص لمقبرة كونية . بيد ان نقيض الموت ، يتفجر عاطفة جمالية ، تجرجرنا داخل فضاء كلي : حيث الضوء لا يحاور كتله ، انما يعلن عن اختراخه لها . انه يجعلها حية ، ولكن تحت زمن الاحتضار . و الرائي ، لحركة العناصر ، يصبح طرفا في المعادلة : انه يعيد صياغتها ، لانه احد مكوناتها : المشاهدد و التضحية . فالفنان لا يخترع اقنعة للتمجيد . ماذا يجمد . انه يرتل في الصلاة جنائزية مندفعا بقوة ايجابية تحض رمز الانيعاث ( تموز مرة ثانية) : القاتل –القانون –و التطهر – الفن كفعل ينتمي الى الاسطورة . ان عبد الكريم سعدون يرصد [1] البيت اول / الرحم : الماء و التراب و التكون البكر [2] وبيت الارض طفولة تستدرج ، تنظم ، تبرمج ، لخوض القتال حتى اكمال البذرة ، في حلقة دائرية تبرر ذاتها بآليات بنيتها التوليدية : [ 3] و فضاء الكون الذي يحمل اخترفاته الكبرى . لان أية كتلة [ الجزء غير مرئي من الذرة ، الى مكونات النطفة ، اليها ، الى مكونات الوعي ، و الوعي ، و غيابه ] لن تشهد تكونها ألا بقانونها . و الوعي البشري لن يتعرف ألا ما يقدر (الوعي) أن يتعرف علية من الباث . ألامر الذي يجعل التعبير ، كل تعبير ، في نقض لا يعرف الاكتمال ، بينما تشكل الحساسية و اشتغال الحواس و القوى المضافة لها ، لجعل التعبير وثيقة ، و شهادة ، او النص الفني اكثر اقناعا ، لان الحساسية ستبقى تعلن عن مطلقها ، داخل النص ، او العبارة ، او في الصمت كاختلاف يحمل مغزاه الرمزي ، و الكوني معا . انها حساسية تهدف ان تكون جمالية في الاخير . الا انها لن تكتمل خارج (النموذج) الذي لم يعد مؤقتا ، و ن ستلعب الحقب و المتغيرات دورها التنويعي في الخطاب ، لان الحساسية ذاتها ستكون ثمرة اكتشاف كلية الذات في حقبها الزمنية . هذا الجذر المثالي ، و التجريبي ، الجذر الذي يتمسك بنظامه عشوائيته معا يخلص الدور غير المباشر للفن : موقف الحذف و الاضافة لملكة يصعب اخضاعها تحت اهداف زمنية . فاذا كانت مادة الحساسية مضطربة حد دفع العقل لجعل الخواس تعبر عن ذلك ، فان اعترافنا التاريخي سيكون صارخا .. بيد ان ما هو لازمني ، في قضايا يصعب اخضاعها للحكم ، ومنها الانسان وهو في محدوديته ، يجعل بعض الحلول ، كالعدالة و الجمال مقنعة خارج اهدافها التاريخية و الميتافيزيقية . ان اختيار عبد الكريم سعدون اهذا الرمز ، يناقض التاريخ العريق لفنون الشرق ،و ينحاز لضرب من الرمزية النقدية . سنتسائل : هل الطفولة ذريعة لادانة الاب ؟ . بمعنى اخر : هل تمثلات الاسطورة ادانة لها ام ان المفارقة في  هكذا موقف غير قابلة للتفكيك ؟ و هل ستبقى مهمات (التعبير )- بحسب نظام المعلومات ودور الذاتي في الفن – تستدرج الحساسية ، و اللانفع او اللاغاية لصلح تبقى نهاياته مؤجلة ، فالتعبير جعلنا نتحدث عن المعاني ، و الاخيرة ، ارتبطت بوظائف الحواس ، داخل جحيم صمت و عويل الباث الفني . لان التعبير – في الاساس –يتوخى الاخر . و لا اخد سينفي حقيقة ان اول النصوص الفنية ما هي الا احد اشكال  الصراع او التخلخل او الاضطراب ، واذا كان القانون ليس الصمت – كما ان الثقوب السود ليست وحدها لها دورها امام فضاءات الامتداد – فان الكلام – الخطاب – عامة – له خصائصه ايضا : انها الحساسية في اشكالها الدالة ، عبر الفن ، عن : دوافعها الابعد . فهل التسامي برمز الطفولة وظيفة نقدية بعيدا عن ( المقدس) و بعيدا عن الشيء في ذاته الكانتي ؟ ان المشاهد الذي تدؤب على حفريات متواصلة ، الذي يعمل بلا حجري و متصلب ، المرن في الحفاظ على عدم الايذاء – الاخلاقي و المنطقي – لا يتباهى بمعرفة – تحكم – وبقرارات لا تحمل نفيها نعها : فقد تكون الصراخة ذاتها محركا اهدف ابعد .. و يكون التعبير – ذاته – وسيلة الاحتجاج العقلي . لان الاخير مازال قيد النمو ، في تقدمه او ارتداده ، في جمالياتها ، او نكوصه و لم يصر معيارا الا اذا كان قد خلد وكف عن الوجود . ان سعدون يتمسك بعناصره ، و اختياره للطفولة ، وسط محيط مشبع بعوامل الوهن ، قد منح حسابيته مداها في فاعلية النقد ، مع انه ، لا يستطيع القفز فوق الرسم . فرسوماته انجزت طوال مرحلة شهدت عمليات ابادة للطفولة العربية ، وامام ثمت عالمي شبه مطلق .الا يدل هذا الاختيار على قضية معاصرة ، جديرة ان تجعل عالمنا خاضعا للحساب ، و التفكيك . وما الذي بامكان النص الفني – في خطابه مع الاخر- ان يؤديه ، بعد ان لم يعد زخفيا او شكليا او احاديا في التعبير ؟ هل سيكون اللارسم ، او اللاعمل ، الاختيار المشرف في عصر تسحق فيه البراءة ، تحت تقنيات التلوث و الخرمان و رفاهية الاستهلاك ؟ ان سعدون ، كصوت داخل التاريخ ، تمسك بجذور التكوين . فالوجود لا يتهدم بليل عصابي هو ثموة تيارات ما فوق تقنية ، نفي ميلاد صرخة طفل ، تكتسب الامال ، وتجرجر اتباعها للدفن ، و لكن للدفن المشرف . هنا لا يكون المشاهد ، ضحية لذة ، ولا ضحية اختيار ذاتي يخص الملكية و الكف عن الحفر في عالم عصابي ، بل سيعيد للاسطورة ، في عصر العلوم و المعتقدات ، تاويلها الاول : الصرخة . لكن رسومات عبد الكريم سعدون ، لا تفعل ذلك ، الا بدافع حساسية تنحاز للموقف النقدي ، و للفن باعتباره لم يصر ( سلعة) ، لان الفن ، بعد ( هيغل) لم يضمحل و لم يمت ، ولكنه تمسك اكثر فاكثر ، بوجود لا يراهن على مثل معدة داخل اساطير الاستلاب ، بل على تفكيك هذا المبدأ . و اذا كان روفائيل قد صور اطفاله ؟ الملائكة ، كنقد خفي للمثل و بدافع الرفعة و المقدس ، فان عبد الكريم سعدون ، يوعدنا برسومات تصبح فيها البراءة ، مادة للرسم ، في عصر ما بعد الحداثة ، و لاسباب في مقدمتها ان الانحياز للطفولة ، سيغدو مطهرا لكل فعل يتوخى التحرر من اغتراباته.  

 حدود الرسم : جدران الخطاب

لا يذهب عبد الكريم سعدون بالرسم الى اقصاه . كما لم يذهب رامبو بالشعر الا الى مرارته المقدسة . فمنذ جواد سليم ، لم تنفذ رسومات تنحاز لشفافية الطفولة . هناك ، تجاوب فاخر محمد ، عاصم عبد الامير ، و تجارب لفهمي القيسي ، و هي بشكل عام تنحاز لمنطق الرسم فوق الجدار ، قلت : لم يذهب بالرسم الى منفاه ، كتجارب تستعير اقنعة الحداثة ، لو التجريد المطلق ، المستعار او المستاجر ، بل وجد نفسه داخل ليل عصابي ، مشاكس ، و عنيد ، فراح ينطق بدافع امتداد يسعى للافلات من الجحيم . هذا الدافع ، في عصر ما بعد الصناعة ، و في قاع عالم قائم على الاستهلاك ، و معلومات بالغة الدقة ، لا يشكل مفارقة .. او درجة ادنى في اختيار الوسائل ، و الاساليب . فالبعد الفلسفي للرسم ، يتمسك بشرعيته الاولى . فهو لا يدير قفاة لعالم محكم الانغلاق ، كانه الفصول التي لم يكتبها ( كافكا) .. و انما هو في مواجه اليات يتدحرج فيها البشر نحو المجهول ، كما قال ( نيتشة) فهو يتمسك بالضوء ، ليعكس ارادة وجوده . و يتمسك بالنور ، كهدف ابعد لا ينفصل عن اخلاقية او ( خلق) عادات الرسم . فالذي تطور ، لا يخص التقنيات و الجغرافية الشاملة للسكان فحسب ، بل للمعاني و الاهداف . فانسان ما بعد الحداثة ، لا يفكر و لا يسلك ، سلوك ضحايا عصر ( التنفيذ) . فالفارق هنا لا علاقة له بحكم القدر ، او الضرورة الابدية ، بل ينبع من عصاب مدمر للجميع في نهايته ، و يجعل الحياة تستعد دورتها بعد وقوع الكارثة . ان الفن سياسة خالصة و هذا ما لم يفهم من غير تعارض عابر. سياسة ، بمعنى ، انه انحياز لقوة ، لوجود لا يتاسس خارج التصادم . ففي عالمنا ، كما في عصور لم تترك الا علامات ضحاياها ، لا يقوم على اللعب البريء ، و البشر لا يمضون حياتهم في عيد النذور ، او يتنزهون في الربيع الخالد . ان المثالية اثبتت انها لا تجيد المشي الا فوق دم ضحاياها ، لانها لا تنظر الى الطرف الاخر ، الذي يمجدها حد غيابه الفعال ، في حضارة خارج الصدام ، الامر الذي يجعل عصرنا ، في العشر الاول من القرن الحادي و العشرين ، من نتاج ليل مهلوس ، ليس لابطاله ، في النهاية ، الا القبول بالانسحاب . هذا الكلام ، يوضع بجلاء ، ان اقل فعل ، و ادنى نشاط ، و منه الفن ، يدخل في سيناريو التراكم : المقدمات و الوسط و النهاية ، و الحداثة النقدية التي ظهرت في اوربا ، عرفت ماذا تريد . انها اعادت للتاريخ منطقة ، و جعلته بشريا ، ومن صنع تقنيات البشر لكن المعني في هذه الحداثة ، و في هذا النقد ، مازال يقود العالم الى التصادم : حداثة تنوي جعل العالم ملكا لها ، كاسواق كبرى ، والبشر ، في النهاية ( منفذون) لعمليات استهلاكية تعمل بذور موتها داخلها ، و بحسب الامثلة التي لا تحصى . فكيف لا يكون الفن ، في تحت هذا المجهر ، سياسة ؟ فماذا كان فعل ، مرئي و غير مرئي ، لا يرشد من التدوين ، في عالم المثل ، حيث الميزان يزن ادنى مثقال ذرة من الخير او من الشر ، لياتي الثواب او العقاب بعد ذلك ، فكيف لا ننظر ، تحت عدسات التاريخ و بفعل ثورات التصال العملاقة ، النظرة ذاتها ، في رؤية المصائر . لقد ادى الفن ، كبافي الاجناس ، وظائفه . وهو اليوم ، يمنحنا فرصة تفكيك تلك الدوافع : فالنصوص ذات الاهمية ، لا تغيب مفهوم ( العصاب) بمعناه الشامل : فاقدم الرسومات توثق طبيعة الصراع . انها افكار تمهيدية لبرنامج عمل بالغة التعقيد . ففي تلك الازمنة ، و حتى تبلورها اليوم ، ضمن الافق الرأسمالي ، اظهرت الاعمال خط سيرها الصريح : راس المال /القوة /المعرفة . انها رموز لسلطة تمتلك مبررات وضع الشرعية في مكانها غير الدقيق . ، و هو مثال مازال يترك ظلاله في مناطق غير قليلة و لا نادرة . فالفنان – حتى لو كان هو روفائيل او بونار – ليس خارج الشر و النور ، انه الة بالغة الحساسية في الستجابة لنظامها .. و الوعي ، مهما تساطى في تعاليه ، فهو ينحاز لدوافعه ، الدال الذي يحمل نظانه معه ولا يفلت منه الا بنظام اخر ، حتى لا نلعن القدر باعتباره ليس من صنع رموزه . مرة اخرى هل يمكن منح الفن هوية ( حيادية) : جمالية خالصة مثلا ؟ كيف ..
هذا الانحياز عند عبد الكريم سعدون ، و عدد من الفنانين العراقيين ، يرجعنا الى ذاكرة الرسم : انه يدخلنا داخل كهوفنا التي صنعتها القوى المتصارعة . فالرسامون يرسمون لاجل اقامة ذكرى تمتد معهم ، كارادة ، بحسب ( شوبنهور) و ارادة قوة كما وضع اسسها العدمية ( نيتشة) .. فالرسامون هم البشر ! وقد اضطر بيكاسو للدفاع عن ذاته باعتباره ليس ( فكرة) وليس تجريدا . ولكن هل تخلى الرسام المعاصر ، عن جدرانه ، ليرسم ، باليات نظام ما بعد السوق ، و عولمة البيئة ، و الذاكرة ، في فضاء مجهول ؟ ثمة ، في هذا المناخ المعقد ، من يتمسك بحواسه : البصر و اليد و الجسد .. فالبصر جاء ملحفا باليد .. و اليد صارت كل مفتاح مملكة الجسد : و الاخير يدافع عن حدوده ، بمبدأ او قناع الشرعية . مرة اخرى الكل يتدحرجون فوق الارض ، وهو اعلان واقع يضاعف فيه عدد المصحات و الاسواق ، و عدد المؤسسات الخيرية و المدافن الفاهة معا : ازدواجية عصر الكهف ، ومنطق الخطاب البكر : لكن ثمة ، داخل هذه الاليات ، و بفعلها ، بحث عن تعبير لا يتخلى عن مثاليات بالغة الواقعية : الحلم ، البراءة ، و الحوار . و مهما كانت ثمرات جني الزرع ، فان الرسم لم يمت . و الرسامون لم يتخلوا عن توثيق ازمنتهم بالرسم فوق جدران الالفية الثالثة : ربما انهم يجهلون مصائرهم ، ليصبح الامل ، في هذا الفعل ، اضاءة . انهم يرسمون بالرسم ، ولكن فوق جدران غطتها اعلانات البضائع و الحروب الكبرى و اعلانات عصر الرفاهية .. يرسمون باعصاب رسام الكهوف ، تاركين مساحات من الجدران ، رسومات تركيبية ، و برؤية تزامنيه ، و بمعرفة لها خبرة خمسة مليارات سنة بعد وجود الكرة الارضية .. و مليون سنة من وجود الحياة المتطورة نسبيا فوق الارض ذاتها ، رسومات تحمل اثقال خبرة غائضة داخل الوعي و محركه له ، خبرة تتطلب الحذف ، و التعديل ، و الاضافة . لكن الرسم مكث يحمل عناصره ذاتها : اللون و الخط و الملمس .. الخ .. مكث يحافظ على : الحلم / البراءة / و السكن الشرعي . ان هذا الدافع ليس وهما ، لدى عبد الكريم سعدون ، و كل ما ينضوي تحت مسار الفنون البدائية –المعاصرة ، في فعلها الحساس ، و التعبيري . و المراقب لا يجد الرسم فوق جدران حضارتنا ، مغزولا ، عن ستة مليارات كائن يراقبون ، عمليا ، ما يحدث : للحلم و البراءة و الشرعية . فالرسم ، وفي معناه الهيغلي الصحيح ، لا يكف ان يكون تجليا للروح . انه يتمسك بنظام الاستجابة للحواس المهددة بالتلف ، حاسة حدود النفع المشترك ، كجذر لفلسفات عدم الايذاء ، منذ سومر مرورا ببوذا و ليس انتهاء بغاندي ، فجذور دوافع المثال –الواقعي ، لا تجعل العنف مقدسا ، بل تمنح مليارات الافعال ، كنصوص ابداعية ، تقاوم اليات جعل الشعوب تتدحرج نحو الهاوية .. فالرسامون سياسيون من الطراز الذين يخلعون بعملهم الاقنعة ، و يتوغلون في مناطق الحلم ، و فضاءات البراءة : انهم لا يرسمون اعلانات لعالم خال من اثر ، لان فعل الاعلان غدا موظفا لماكينة انتاج الاستهلاك ، و انما هم غايات لرسم احلام خالصة ، تنسجم مع التعبير المعدل لكلمات ( كانت) : احلام في ذاتها ، لانها لن تكون في ذاتها الا باعادة بناء عالم خال من التلوث اليس الرسم – هنا – مع الرسام ، يدافعان عن جسد لا ننظر له بريبة ، او بدونية ، لان العقل يسكنه .. بعد ان يكف الجسد ان يكون هدفا للإزاحة.

http://www.asadoon.com/images/Line_horz.236Pix_white.gif