تبدو الأعمال التشكيلية الحديثة في
حال من الغرابة أو التغريب، الذي خرج عن اهتمام المُتلقي لأنه يرى ما لم تتعوده
عيناه و إدراكاته،
وبالتالي رفضه، إلا أن لهذه الأعمال جذورها التاريخية والجمالية في الغرب،
وسياقاتها الاجتماعية والثقافية التي أنتجتها ولو بمفهوم المواجهة والثورة ضد هذه
السياقات. وكان لهذه الأعمال الأثر الكبير على حركة التشكيل المصري، التي تباينت
من حيث اجتزاء المفاهيم دون إدراك سياقاتها، أو حاولت أن تتآلف وهذه الجماليات من
خلال الإرث البصري المصري. ويحاول الفنان «عادل ثروت» من خلال مؤلفه «العمل الفني
المُركّب وفن التجهيز في الفراغ» أن يستعرض المفاهيم الجمالية لهذا الشكل الفني، وأثر
ذلك على حركة التشكيل المصري الحديث. جاء الكتاب في 232 صفحة من القطع الكبير، من
إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة آفاق الفن التشكيلي 2014.
العمل الفني المُركّب/التجميعي
يبدأ المؤلف بتعريف مختصر لهذا الشكل الفني، فيذكر أنه أسلوب يتميز بإذابة الفواصل والحدود الأكاديمية لتصنيف الفنون، ويعبر عن تطور تقنيات العمل الفني، من حيث استخدام التكنولوجيا والجديد في العلوم، وهو بذلك يخرج عن إطار الفن التقليدي من رسم ونحت وتصوير. وتبدو مرجعيات هذا الشكل الفني في حركة التشكيل العالمي في تجارب فناني الدادا والبوب آرت والواقعيين الجدد، وقد جاءت أعمالهم لتعبر عن التغير الحادث في المجتمع آنذاك على كافة المستويات والسياقات، فكانت روحاً انتقادية للمجتمع الاستهلاكي، ومما نتج عنه عبور ثوابت المعايير الجمالية التقليدية، وتعدي الحدود الفاصلة بين الفن والحياة، والاهتمام بأثر التكنولوجيا على المُنتَج الفني. وبداية من موقف حداثي أصبح معيار القيمة في العمل الفني لا يُقاس بمدى وأهمية الشيء الذي يُمثله، بقدر ما يُمثله العمل ذاته. أي دون مرجعيات خاصة بالواقع المرئي.
الدادا وفن التجميع
أسلوب حركة الدادا المضاد للفن
التقليدي هو ما أرسى شكل فن التجميع، ذلك عن طريق رؤية جمالية تستند إلى
الثورة والتمرد على كل التقاليد التشكيلية الموروثة، فاستخدموا الخامات والأشياء
جاهزة الصنع؟، أو ما يُعرف بـ (الحقيقي) ليحل محل الأشياء التقليدية. وكان وراء
ذلك موقفاً فلسفياً كرفض هيمنة الطبقة البرجوازية وذوقها العام على الفن، وأن تكون
اللوحة الفنية سلعة وأداة استمتاع تحتاجها فئات معينة من المجتمع. فهناك موقف من
القيم التي شكّلتها الطبقة البرجوازية، والتي كانت في اعتقادهم ضمن الأسباب التي
أدت إلى انهيار المجتمع الأوروبي في بدايات القرن العشرين، وبالتالي أصبح العادي
واليومي يدخل في نطاق الفن. ومن هؤلاء الفنانين .. مارسيل دوشامب، هانز آراب،
راؤول هوسمان، وفرانسيس بيكابيا.
الواقعية الجديدة
هذه الحركة التي ظهرت في بداية
الستينيات من القرن العشرين، واختلفت في المُصطلح، ما بين فن البوب في المجتمع
الأمريكي والواقعية الجديدة في أوروبا، فكل منهما يحمل السمات الفكرية والمواقف
الانتقادية نفسها للفن والمجتمع، انطلاقاً من منهج وموقف سياسي محدد. حيث تستمد
عناصها من الإنسان وحياته اليومية، محاولة خلق التناغم ما بين القيمة الاجتماعية
والجمالية، فهي لا تنقل الواقع وتحاكيه، بل نتقده وتحاول تجاوزه، أي تثويره،
فأنتجت فناً يستخدم الواقع من خلال أشياء متداولة أكثر من التأويل الأسلوبي لهذا
الواقع، في ظِل سطوة المجتمع الصناعي الجديد وقتها. وهو بذلك فن يبحث عن إقامة
علاقاته الدائمة مع الجمهور، فلا يغترب عنهم، ويصبح العمل الفني متوقفاً على مدى
تفاعل الجمهور معه، ليس من خلال إدراكات بصرية لم يعرفها من قبل، ولكن في شكل جديد
وتكوين منفصل عن رؤية الشيء في الحياة. وهنا جاءت تقنية الكولاج والصور
الفوتوغرافية وفن التصوير التقليدي، فالن في مفهومهم ظاهرة جمالية جمعية، لا تتوقف
على أفكار وهواجس وبواطن الفنان وحده. ومن فناني هذه الحركة .. جورج سيجال، جاسبر
جونز، وروبرت روشنبرج.
ما بعد الحداثة والفن التشكيلي
ظهرت الاتجاهات التشكيلية في ظل ما
بعد الحداثة لتقضي على الجماليات الموروثة، فلم يعد العمل الفني جالباً للمتعة
الوجدانية للمُشاهِد، من خلال علاقات أصبحت تقليدية مرتبطة بجماليات التلقي، فظهرت
اتجاهات فنية جديدة تعيد صياغة هذه العلاقة الجمالية، وهي .. الفن المفاهيمي، فن
الأداء، وفن البيئة. ويتضح الاتجاه الأول في كونه يهتم بالفكرة نفسها، فهي الهدف
الفعلي من العمل الفني، لا العمل نفسه، فخرج الفن بذلك عن إطاره التعبيري. ويستشهد
المؤلف بعمل لـ «جوزيف كوزث» بعنوان «كرسي واحد وثلاثة كراسي» وهو عبارة عن كرسي
حقيقي، وصورة فوتوغافيه له، إضافة إلى لوحة مكتوب عليها للتحديد اللغوي لكلمة كرسي
كما وردت في القاموس، فيكون السؤال للجمهور .. أين تكمن شخصية الشيء؟ في الشيء
نفسه، أم في ما تمثله صورته الفوتوغرافية، أم في وصفه الكتابي أو الشفهي، أم في كل
ذلك؟! وبالتالي يصبح التأويل الدلالي للعمل الفني هو أساس عملية التلقي. وعلى
الجانب الآخر يأتي اتجاه الأداء، والذي يعتمد الجسد الإنساني بشكل أساسي في العمل
الفني، الجسد كمادة أصبح يقوم بإلغاء المسافة الفاصلة بين الواقع وترجمته الفنية.
فالحضور الفعلي للجسد هو مادة الإبداع البصري، وذلك وسط توليف عدة أشكال من الفنون
.. كالصوت والإضاءة والفيديو والديكور والرقص الإيمائي والتعبيري. ومن أهم فناني
هذا الاتجاه الأمريكي جوزيف بويس. وأخيراً اتجاه فن البيئة، الذي ظهر في نهاية
الستينيات كاتجاه مناقض للسوق التجاري للفن، فالعمل الفني يتم من خلال الطبيعة
مباشرة كالحفر والنحت والهدم والتسوية والتقطيع، أو يتم في قاعات عرض مع استحضار
المواد الأولية للطبيعة، كالأحجار والرمال وغيرها. فلا يوجد معادل أو نظام معماري،
ويصبح العمل من خلال العودة إلى الطبيعة من والاعتماد على الذاكرة الجمعية.
فن التجهيز في الفراغ
وتمتد جذور هذا الفن إلى فنون
الحضارات المختلفة كالمعابد والكاتدرائيات والمساجد، مع التعارض والهدف الوظيفي
لهذه المباني. فالعمل الفني يتم تنظيمه داخل حيز محدد من الفراغ، هذا الفراغ الذي
يصبح أحد أهم عناصر العمل الفني، فالفراغ هنا حقيقي، وليس الفراغ الإيهامي
المُعتمد على قواعد المنظور، وذلك من خلال تفاعل عدة وسائط تعبيرية كالنحت،
التصوير، الأفلام، الموسيقى، الفوتوغرافيا والنص المكتوب. فهذا الفن اعتمد بالأساس
على فن التجميع وفنون البيئة.
التشكيل المصري المعاصر
لاقت فنون ما بعد الحداثة انعكاساً في حركة التشكيل
المصري المعاصر، خاصة العمل الفني التجميعي وفن التجهيز في الفراغ، وإن كانت
الحركة الفنية أسبق من النقد ــ كما هو المعتاد عندنا ــ بدأت هذه التجارب منذ
تسعينات القرن الفائت وأوائل الألفية الجديدة، فكان لها الدور الفاعل في تأسيس
حركة ما بعد طليعية، تستند إلى أعراف وتقاليد ومعايير فنية وجمالية جديدة، من حيث
التعامل مع الفوتوغرافيا وشاشات العرض والمستنسخات التجارية والضوء. ومنهم .. رمزي
مصطفى، فرغلي عبد الحفيظ، فاروق وهبة، أيمن السمري، عادل ثروت، أحمد رجب صقر، عماد
أبو زيد، شادي النشوقاتي، أحمد بدري، وائل درويش، وخالد حافظ.
محمد عبد الرحيم
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire